صفحة رقم ٩٢
الخلق بالكلية والتوجه إلى الحق تعالى بالكلية فالأول هو مبدأ السلوك إلى الله تعالى، والثاني هو آخر الطريق ومنتهاه ) وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم ( نزلت هذه الآية جواباً لمشركي مكة حيث أنكروا نبوة محمد ( ﷺ ) وقالوا الله أعظم وأجل أن يكون رسوله بشراً فهلا بعث ملكاً إلينا فأجابهم الله عز وجل بقوله : وما أرسلنا من قبلك يا محمد إلا رجالاً يعني مثلك نوحي إليهم والمعنى أن عادة الله عز وجل جارية من أول مبدأ الخلق أنه لم يبعث إلا رسولاً من البشر فهذه عادة مستمرة، وسنة جارية قديمة ) فاسألوا أهل الذكر ( يعني أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى، وإنما أمرهم الله بسؤال أهل الكتاب لأن كفار مكة كانوا يعتقدون أن أهل الكتاب أهل علم، وقد أرسل الله إليهم رسلاً منهم مثل موسى وعيسى وغيرهم من الرسل، وكانوا بشراً مثلهم فإذا سألوهم فلا بد، وأن يخبروهم بأن الرسل الذين أرسلوا إليهم كانوا بشراً، فإذا أخبروهم بذلك زالت الشبهة عن قلوبهم ) إن كنتم لا تعلمون ( الخطاب لأهل مكة يعني إن كنتم يا هؤلاء لا تعلمون ذلك ) بالبينات والزبر ( اختلفوا في المعنى الجالب لهذه الباء فقيل المعنى، وما أرسلنا من قبلك بالبيِّنات والزبر إلا رجالاً يوحى إليهم أرسلناهم بالبينات والزبر، وقيل الذكر بمعنى العلم في قوله فاسألوا أهل الذكر يعني أهل العلم والمعنى فاسئلوا أهل الذكر الذي هو العلم بالبينات والزبر إن كنتم لا تعلمون أنتم ذلك.
والبينات والزبر اسم جامع لكل ما يتكامل به أمر الرسالة، لأن مدار أمر الرسول على المعجزات الدالة على صدقة، وهي بالبينات وعلى بيان الشرائع والتكاليف، وهي المراد بالزبر يعني الكتب المنزلة على الرسل من الله عز وجل ) وأنزلنا إليك الذكر ( الخطاب للنبي ( ﷺ ) يعني : وأنزلنا عليك يا محمد الذكر الذي هو القرآن وإنما سماه ذكراً لأن فيه مواعظ، وتنبيهاً للغافلين ) لتبين للناس ما نزل إليهم ( يعني ما أجمل إليك من أحكام القرآن، وبيان الكتاب يطلب منه السنة والمبين لذلك المجمل هو الرسول ( ﷺ ) ولهذا قال بعضهم : متى وقع تعارض بين القرآن والحديث وجب تقديم الحديث لأن القرآن مجمل، والحديث مبين بدلالة هذه الآية والمبين مقدم على المجمل وقال بعضهم القرآن منه محكم، ومنه متشابه فالمحكم يجب أن يكون مبيناً والمتشابه هو المجمل ويطلب بيانه من السنة فقوله تعالى : لتبين للناس ما نزل إليهم محمول على ما أجمل فيه دون المحكم البين المفسر ) ولعلهم يتفكرون ( يعني فيما أنزل إليهم فيعلموا به ) أفأمن الذين مكرو السيئات ( فيه حذف تقديره المنكرات السيئات وهم كفار قريش مكروا برسول الله ( ﷺ ) وبأصحابه، وبالغوا في أذيتهم والمكر عبارة عن السعي بالفساد على سبيل الإخفاء، وقيل : المراد بهذا المكر اشتغالهم بعبادة غير الله فيكون مكرهم على أنفسهم والصحيح أن المراد بهذا المكر السعي في أذى رسول الله ( ﷺ ) والمؤمنين.
وقيل : المراد بالذين مكروا السيئات نمروذ، ومن هو مثله والصحيح أن المراد بهم كفار مكة ) أن يخسف الله بهم الأرض ( يعني كما خسف بقرون من قبلهم ) أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون ( يعني أن العذاب يأتيهم بغتة فيهلكهم فجأة كما أهلك قوم لوط وغيرهم ) أو يأخذهم في تقلبهم ( بمعنى في تصرفهم في الأسفار فإنه سبحانه وتعالى، على إهلاكهم في السفر كما هو قادر على إهلاكهم في الحضر، وقال ابن عباس يأخذهم في اختلافهم.
وقال ابن جريج : إقبالهم وإدبارهم يعني أنه تعالى قادر على أن يأخذهم في ليلهم ونهارهم، وفي جميع أحوالهم


الصفحة التالية
Icon