أفضل من رسول واحد من البشر.
إلى هذا ذهب بعض أهل السنة، ولأن المراد أن الملائكة مع ما لهم من القدرة الفائقة قدر البشر والعلوم اللوحية وتجردهم عن التولد الازدواجي رأساً لا يستنكفون عن عبادته، فكيف بمن يتولد من آخر ولا يقدر على ما يقدرون ولا يعلم ما يعلمون وهذا لأن شدة البطش وسعة العلوم وغرابة التكون هي التي تورث الحمقى أمثال النصارى وهم الترفع عن العبودية حيث رأوا المسيح ولد من غير أب وهو يبرىء الأكمه والأبرص ويحيي الموتى وينبىء بما يأكلون ويدخرون في بيوتهم، فبرءوه من العبودية فقيل لهم هذه الأوصاف في الملائكة أتم منها في المسيح، ومع هذا لم يستنكفوا عن العبودية فكيف المسيح والحاصل أن خواص البشر وهم الأنبياء عليهم السلام أفضل من خواص الملائكة وهم الرسل منهم، كجبريل وميكائيل وعزرائيل ونحوهم، وخواص الملائكة أفضل من عوام المؤمنين من البشر، وعوام المؤمنين من البشر أفضل من عوام الملائكة، ودليلنا على تفضيل البشر على الملك ابتداء أنهم قهروا نوازع الهوى في ذات الله تعالى مع أنهم جبلوا عليها فضاهت الأنبياء عليهم السلام الملائكة عليهم السلام في العصمة وتفضلوا عليهم في قهر البواعث النفسانية والدواعي الجسدانية، فكانت طاعتهم أشق لكونها مع الصوارف بخلاف طاعة الملائكة لأنهم جبلوا عليها فكانت أزيد ثواباً بالحديث ﴿ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ ﴾ [النساء : ١٧٢] يترفع ويطلب الكبرياء ﴿ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعًا ﴾ [النساء : ١٧٢] فيجازيهم على استنكافهم واستكبارهم.
ثم فصل فقال :
﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا ﴾ [النساء : ١٧٣] فإن قلت : التفصيل غير مطابق للمفصل لأن التفصيل اشتمل على الفريقين والمفصل على فريق واحد، قلت : هو مثل قولك " جمع الإمام الخوارج " فمن لم يخرج عليه كساه وحمله، ومن خرج عليه نكل به.
وصحة ذلك لوجهين : أحدهما أنه حذف ذكر أحد الفريقين لدلالة التفصيل عليه لأن ذكر أحدهما يدل على ذكر الثاني كما حذف أحدهما في التفصيل في قوله تعالى بعد هذا :
٣٨٦
" فأما الذين آمنوا باللّه واعتصموا به ".
والثاني أن الإحسان إلى غيرهم مما يغمهم فكان داخلاً في جملة التنكيل بهم فكأنه قيل : ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيعذب بالحسرة إذا رأى أجور العاملين وبما يصيبه من عذاب الله :﴿ يَـا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَكُم بُرْهَـانٌ مِّن رَّبِّكُمْ ﴾ [النساء : ١٧٤] أي رسول يبهر المنكر بالإعجاز ﴿ وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا ﴾ [النساء : ١٧٤] قرآناً يستضاء به في ظلمات الحيرة ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ ﴾ [النساء : ١٧٥] بالله أو بالقرآن ﴿ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِى رَحْمَةٍ مِّنْهُ ﴾ [النساء : ١٧٥] أي جنة ﴿ وَفَضَّلَ ﴾ زيادة النعمة ﴿ وَيَهْدِيهِمْ ﴾ ويرشدهم ﴿ إِلَيهِ ﴾ إلى الله أو إلى الفضل أو إلى صراطه ﴿ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا ﴾ [النساء : ٦٨] فـ " صراطاً " حال من المضاف المحذوف.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٣٨٥


الصفحة التالية
Icon