﴿ وَقَفَّيْنَا ﴾ معنى قفيت الشيء بالشيء جعلته في أثره كأنه جعل في قفاه يقال قفاه بقفوه إذا تبعه ﴿ عَلَى ءَاثَـارِهِم ﴾ [الكهف : ٦] عى آثار النبيين الذين أسلموا ﴿ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا ﴾ [المائدة : ٤٦] هوحال من " عيسى " ﴿ لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ﴾ أي وآتيناه الإنجيل ثابتاً فيه هدى ونور ومصدقاً، فنصب " مصدقاً " بالعطف على ثابتاً الذي تعلق به فيه وقام مقامه فيه.
وارتفع " هدى ونور " بثابتاً الذي قام مقامه فيه ﴿ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ ﴾ [آل عمران : ١٣٨] انتصبا على الحال أي هادياً وواعظاً ﴿ لِّلْمُتَّقِينَ ﴾ لأنهم ينتفعون به ﴿ وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الانجِيلِ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ ﴾ [المائدة : ٤٧] وقلنا لهم احكموا بموجبه، فاللام لام الأمر وأصله الكسر، وإنما سكن استثقالاً لفتحة وكسرة وفتحة.
" وليحكم " بكسر اللام وفتح الميم : حمزة على أنها لام كي أي وقفينا ليؤمنوا وليحكم.
﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوالَـائِكَ هُمُ الْفَـاسِقُونَ ﴾ [المائدة : ٤٧] الخارجون عن الطاعة.
قال الشيخ أبو منصور رحمه الله : يجوز أن يحمل على الجحود في الثلاث فيكون
٤١٣
كافراً ظالماً فاسقاً، لأن الفاسق المطلق والظالم المطلق هو الكافر.
وقيل : ومن لم يحكم بما أنزل الله فهو كافر بنعمة الله ظالم في حكمه فاسق في فعله.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤١١
﴿ وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَـابَ ﴾ [المائدة : ٤٨] أي القرآن فحرف التعريف فيه للعهد ﴿ بِالْحَقِّ ﴾ بسبب الحق وإثباته وتبيين الصواب من الخطأ ﴿ مُصَدِّقًا ﴾ حال من " الكتاب " ﴿ لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾ [فاطر : ٣١] لما تقدمه نزولاً.
وإنما قيل لما قبل الشيء هو بين يديه لأن ما تأخر عنه يكون وراءه وخلفه فما تقدم عليه يكون قدامه وبين يديه ﴿ مِنَ الْكِتَـابِ ﴾ [النمل : ٤٠] المراد به جنس الكتب المنزلة لأن القرآن مصدق لجميع كتب الله فكان حرف التعريف فيه للجنس، ومعنى تصديقه الكتب موافقتها في التوحيد والعبادة ﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلا نُوحِى إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَـاهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾ [الأنبياء : ٢٥] (الأنبياء : ٥٢) ﴿ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ﴾ [المائدة : ٤٨] وشاهداً لأنه يشهد له بالصحة والثبات ﴿ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ ﴾ [المائدة : ٤٨] أي بما في القرآن ﴿ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ الْحَقِّ ﴾ [المائدة : ٤٨] نهى أن يحكم بما حرفوه وبدلوه اعتماداً على قولهم.
ضمّن ولا تتبع معنى ولا تنحرف فلذا عدي بـ " من " فكأنه قيل : ولا تنحرف عما جاءك من الحق متبعاً أهواءهم، أو التقدير عادلاً عما جاءك ﴿ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ ﴾ [المائدة : ٤٨] أيها الناس ﴿ شِرْعَةً ﴾ شريعة ﴿ وَمِنْهَاجًا ﴾ وطريقاً واضحاً.
واستدل به من قال إن شريعة من قبلنا لا تلزمنا.
ذكر الله إنزال التوراة على موسى عليه السلام، ثم إنزال الإنجيل على عيسى عليه السلام، ثم إنزال القرآن على محمد صلى الله عليه وسلّم، وبين أنه ليس للسماع فحسب بل للحكم به فقال في الأول " يحكم به التبيون " وفي الثاني " وليحكم أهل الإنجيل " وفي الثالث " فاحكم بينهم بما أنزل الله " ﴿ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ﴾ [المائدة : ٤٨] جماعة متفقة على شريعة واحدة ﴿ الْمَآءِ لِيَبْلُوَكُمْ ﴾ ليعاملكم معاملة المختبر ﴿ فِى ﴾ من الشرائع المختلفة فتعبّد كل أمة بما اقتضته الحكمة ﴿ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ﴾ [البقرة : ١٤٨] فابتدروها وسابقوا نحوها قبل الفوات بالوفاة.
والمراد بالخيرات كل ما أمر الله تعالى به ﴿ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ ﴾ [المائدة : ٤٨] استئناف في معنى التعليل لاستباق الخيرات ﴿ جَمِيعًا ﴾ حال من
٤١٤
الضمير المجرور والعامل المصدر المضاف لأنه في تقدير : إليه ترجعون ﴿ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴾ [المائدة : ٤٨] فيخبركم بما لا تشكون معه من الجزاء الفاصل بين محقكم ومبطلكم وعاملكم ومفرطكم في العمل.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤١١


الصفحة التالية
Icon