الباطل وهلك لأن الإبداء والإعادة من صفات الحي فعدمهما عبارة عن الهلاك، والمعنى جاء الحق وزهق الباطل كقوله ﴿ جَآءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَـاطِلُ ﴾ [الإسراء : ٨١] (الإسراء : ١٨) وعن ابن مسعود رضي الله عنه : دخل النبي صلى الله عليه وسلّم مكة وحول الكعبة أصنام فجعل يطعنها بعود معه ويقول " جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً، جاء الحق وما يبدىء الباطل وما يعيد ".
وقيل : الباطل الأصنام.
وقيل : إبليس لأنه صاحب الباطل أو لأنه هالك كما قيل له الشيطان من شاط إذا هلك أي لا يخلق الشيطان ولا الصنم أحداً ولا يبعثه فالمنشيء والباعث هو الله.
ولما قالوا : قد ضللت بترك دين آبائك قال الله تعالى ﴿ قُلْ إِن ضَلَلْتُ ﴾ [سبأ : ٥٠] عن الحق ﴿ فَإِنَّمَآ أَضِلُّ عَلَى نَفْسِى ﴾ [سبأ : ٥٠] إن ضللت فمني وعليّ ﴿ وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِى إِلَىَّ رَبِّى ﴾ [سبأ : ٥٠] أي فتبسديده بالوحي إلي.
وكان قياس التقابل أن يقال وإن اهتديت فإنما أهتدي لها كقوله :﴿ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ﴾ [الزمر : ٤١] (الإسراء : ٥١).
ولكن هما متقابلان معنى، لأن النفس كل ما عليها وضار لها فهو بها وبسببها لأنها الأمارة بالسوء، وما لها مما ينفعها فبهداية ربها وتوفيقه، وهذا حكم عام لكل مكلف، وإنما أمر رسوله أن يسنده إلى نفسه لأن الرسول إذا دخل تحته مع جلالة محله وسداد طريقته كان غيره أولى به ﴿ إِنَّهُ سَمِيعٌ ﴾ [الأعراف : ٢٠٠] لما أقوله لكم ﴿ قَرِيبٌ ﴾ مني ومنكم يجازيني ويجازيكم.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٧٩
﴿ وَلَوْ تَرَى ﴾ [الأنعام : ٩٣] جوابه محذوف أي لرأيت أمراً عظيماً وحالاً هائلة ﴿ إِذْ فَزِعُوا ﴾ [سبأ : ٥١] عند البعث أو عند الموت أو يوم بدر ﴿ فَلا فَوْتَ ﴾ [سبأ : ٥١] فلا مهرب أو فلا يفوتون الله ولا يسبونه ﴿ وَأُخِذُوا ﴾ عطف على ﴿ فَزِعُوا ﴾ أي فزعوا وأخذوا فلا فوت لهم أو على لا فوت على معنى إذ فزعوا فلم يفوتوا وأخذوا ﴿ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ ﴾ [سبأ : ٥١] من الموقف إلى النار إذا بعثوا أو من ظهر الأرض إلى بطنها إذا ماتوا أو من صحراء
٤٨٠
بدر إلى القليب ﴿ وَقَالُوا ﴾ حين عاينوا العذاب ﴿ بِهِ إِنَّهُ ﴾ [القصص : ٥٣] بمحمد عليه السلام لمرور ذكره في قوله ﴿ مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ ﴾ [سبأ : ٤٦] (سبأ : ٦٤) أو بالله ﴿ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَّكَان بَعِيدٍ ﴾ [سبأ : ٥٢] التناوش : التناول أي كيف يتناولون التوبة وقد بعدت عنهم، يري أن التوبة كانت تقبل منهم في الدنيا وقد ذهبت الدنيا وبعدت من الآخرة.
وقيل : هذا تمثيل لطلبهم ما لا يكون وهو أن ينفعهم إيمانهم في ذلك الوقت كما نفع المؤمنين إيمانهم في الدنيا، مثلت حالهم بحال من يريد أن يتناول الشيء من غلوة كما يتناول الآخر من قيس ذراع.
بالهمزة : أبو عمرو وكوفي غير حفص همزت الواو لأن كل واو مضمومة ضمتها لازمة إن شئت أبدلتها همزة وإن شئت لم تبدل نحو قولك " أدور وتقاوم "، وإن شئت قلت " أدؤر وتقاؤم ".
وعن ثعلب : التناؤش بالهمز التناول من بعد، وبغير همز التناول من قرب.
﴿ بَعِيدٍ * وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِن قَبْلُ ﴾ [سبأ : ٥٣] من قبل العذاب أو في الدنيا ﴿ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ ﴾ [سبأ : ٥٣] معطوف على ﴿ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ على حكاية الحال الماضية يعني وكانوا يتكلمون بالغيب أو بالشيء الغائب يقولون لا بعث ولا حساب ولا جنة ولا نار ﴿ مِن مَّكَان بَعِيدٍ ﴾ [سبأ : ٥٢] عن الصدق أو عن الحق والصواب، أو قولهم في رسول الله صلى الله عليه وسلّم شاعر ساحر كذاب وهذا تكلم بالغيب والأمر الخفي لأنهم لم يشاهدوا منه سحراً ولا شعراً ولا كذباً.
وقد أتوا بهذا الغيب من جهة بعيدة من حاله لأن أبعد شيء مما جاء به السحر والشعر وأبعد شيء من عاداته التي عرفت بينهم وجربت الكذب ﴿ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ ﴾ [سبأ : ٥٣] عن أبي عمرو على البناء للمفعول أي تأتيهم به شياطينهم ويلقنونهم إياه
٤٨١
وإن شئت فعلقه بقوله ﴿ ءَامَنَّا بِهِ إِنَّهُ ﴾ على أنه مثّلهم في طلبهم تحصيل ما عطلوه من الإيمان في الدنيا بقولهم ﴿ مِنْ ﴾ في الآخرة وذلك مطلب مستبعد بمن يقذف شيئاً من مكان بعيد لا مجال للظن في لحوقه حيث يريد أن يقع فيه لكونه غائباً عنه بعيداً.


الصفحة التالية
Icon