﴿ يَـا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ ﴾ [الحج : ٧٣] بين ﴿ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُا ﴾ [الحج : ٧٣] لضرب هذا المثل ﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ ﴾ [الأعراف : ١٩٤] ﴿ يَدْعُونَ ﴾ سهل ويعقوب ﴿ مِن دُونِ اللَّهِ ﴾ [يس : ٧٤] آلهة باطلة ﴿ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا ﴾ [الحج : ٧٣] " لن " تأكيد نفي المستقبل وتأكيده هنا للدلالة على أن خلق الذاباب منهم مستحيل كأنه قال : محال أن يخلقوا.
وتخصيص الذباب لمهانته وضعفه واستقذاره، وسمي ذباباً لأنه كلما ذب لاستقذاره آب لاستكباره ﴿ وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ ﴾ [الحج : ٧٣] لخلق الذباب ومحله النصب على الحال كأنه قيل : مستحيل منهم أن يخلقوا الذباب مشروطاً عليهم اجتماعهم جميعاً لخلقه وتعاونهم عليه، وهذا من أبلغ ما أنزل في تجهيل قريش حيث وصفوا بالإلهية التي تقتضي الاقتدار على المقدورات كلها والإحاطة بالمعلومات عن آخرها صوراً وتماثيل يستحيل منها أن تقدر على أقل ما خلقه الله تعالى وأذله لو اجتمعوا لذلك ﴿ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شيئا ﴾ [الحج : ٧٣] ﴿ شيئا ﴾ ثاني مفعولي ﴿ يَسْلُبْهُمُ ﴾ ﴿ لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ﴾ [الحج : ٧٣] أي هذا الخلق الأقل الأذل لو اختطف منهم شيئاً فاجتمعوا على أن يستخلصوه منه لم يقدروا.
عن ابن عباس رضي الله عنهما أنهم كانوا يطلونها بالزعفران ورؤوسها بالعسل فإذا سلبه الذباب عجز الأصنام عن أخذه ﴿ ضَعُفَ الطَّالِبُ ﴾ [الحج : ٧٣] أي الصنم بطلب ما سلب منه ﴿ وَالْمَطْلُوبُ ﴾ الذباب بما سلب وهذا كالتسوية بينهم وبين الذباب في الضعف، ولو حققت وجدت الطالب أضعف وأضعف فإن الذباب حيوان وهو جماد وهو غالب وذاك مغلوب ﴿ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ﴾ [الحج : ٧٤] ما عرفوه حق معرفته حيث جعلوا هذا
١٦٧
الصنم الضعيف شريكاً له ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ ﴾ أي إن الله قادر وغالب فكيف يتخذ العاجز المغلوب شبيهاً به، أو لقوي بنصر أوليائه عزيز ينتقم من أعدائه.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٦٧
﴿ اللَّهُ يَصْطَفِى ﴾ [الحج : ٧٥] يختار ﴿ مِنَ الْمَلَـائكَةِ رُسُلا ﴾ [الحج : ٧٥] كجبريل وميكائيل وإسرافيل وغيرهم ﴿ وَمِنَ النَّاسِ ﴾ [الحج : ٧٥] رسلاً كإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وغيرهم عليهم السلام.
وهذا رد لما أنكروه من أن يكون الرسول من البشر، وبيان أن رسل الله على ضربين ملك وبشر.
وقيل : نزلت حين قالوا ﴿ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا بَلْ ﴾ [ص : ٨] (القمر : ٥٢) ﴿ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعُ ﴾ [الحج : ٧٥] لقولهم ﴿ بَصِيرٌ ﴾ بمن يختاره لرسالته، أو سميع لأقوال الرسل فيما تقبله العقول بصير بأحوال الأمم في الرد والقبول ﴿ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ﴾ [البقرة : ٢٥٥] ما مضى ﴿ وَمَا خَلْفَهُمْ ﴾ [سبأ : ٩] ما لم يأت أو ما عملوه وما سيعملوه أو أمر الدنيا وأمر الآخرة ﴿ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الامُورُ ﴾ [البقرة : ٢١٠] أي إليه مرجع الأمور كلها، والذي هو بهذه الصفات لا يسئل عما يفعل وليس لأحد أن يعترض عليه في حكمه وتدابيره واختيار رسله ترجع شامي وحمزة وعلي.
﴿ يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا ﴾ [الحج : ٧٧] في صلاتكم، وكان أول ما أسلموا يصلون بلا ركوع وسجود فأمروا أن تكون صلاتهم بركوع وسجود، وفيه دليل على أن الأعمال ليست من الإيمان وأن هذه السجدة للصلاة لا للتلاوة ﴿ وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ ﴾ [الحج : ٧٧] واقصدوا بركوعكم وسجودكم وجه الله لا الصنم ﴿ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ ﴾ [الحج : ٧٧] قيل : لما كان للذكر مزية على غيره من الطاعات دعا المؤمنين أولاً إلى الصلاة التي هي ذكر خالص لقوله تعالى ﴿ إِنَّنِى أَنَا اللَّهُ ﴾ [طه : ١٤] ثم إلى العبادة بغير الصلاة كالصوم والحج وغيرهما، ثم عم بالحث على سائر الخيرات.
وقيل : أريد به صلة الأرحام ومكارم الأخلاق ﴿ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [البقرة : ١٨٩] أي كي تفوزوا أو افعلوا هذا كله وأنتم راجون للفلاح غير مستيقنين ولا تتكلوا على أعمالكم
١٦٨
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٦٨


الصفحة التالية
Icon