﴿ أَوَلَمْ يَرَ الانسَـانُ أَنَّا خَلَقْنَـاهُ مِن نُّطْفَةٍ ﴾ مذرة خارجة من الإحليل الذي هو قناة النجاسة ﴿ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مٌّبِينٌ ﴾ [النحل : ٤] بين الخصومة أي فهو على مهانة أصله ودناءة أوله يتصدى لمخاصمة ربه وينكر قدرته على إحياء الميت بعد ما رمت عظامه، ثم يكون خصامه في ألزم وصف له وألصقه به وهو كونه منشأ من موات وهو ينكر إنشاءه من موات وهو غاية المكابرة ﴿ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا ﴾ [يس : ٧٨] بفته العظم ﴿ وَنَسِىَ خَلْقَهُ ﴾ [يس : ٧٨] من المني فهو أغرب من إحياء العظم، المصدر مضاف إلى المفعول أي خلقنا إياه ﴿ قَالَ مَن يُحْىِ الْعِظَـامَ وَهِىَ رَمِيمٌ ﴾ هو اسم لما بلي من العظام غير صفة كالرمة والرفات ولهذا لم يؤنث، وقد وقع خبراً لمؤنث ومن يثبت الحياة في العظام ويقول إن عظام الميتة نجسة لأن الموت يؤثر فيها من قبل أن الحياة تحلها يتشبث بهذه الآية وهي عندنا طاهرة، وكذا الشعر والعصب لأن الحياة لا تحلها فلا يؤثر فيها الموت.
والمراد بإحياء العظام في الآية ردها إلى ما كانت عليه غضة رطبة في بدن حي حساس ﴿ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِى أَنشَأَهَآ ﴾ [يس : ٧٩] خلقها ﴿ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾ [التوبة : ١٣] أي ابتداء ﴿ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ ﴾ [يس : ٧٩] مخلوق ﴿ عَلِيمٌ ﴾ لا تخفى عليه أجزاؤه وإن تفرقت في البر والبحر فيجمعه ويعيده كما كان ﴿ الَّذِى جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الاخْضَرِ نَارًا فَإِذَآ أَنتُم مِّنْه تُوقِدُونَ ﴾ [يس : ٨٠] تقدحون.
ثم ذكر من بدائع خلقه انقداح النار من الشجر الأخضر مع مضادة النار الماء وانطفائها به وهي الزناد التي تورى بها الأعراب وأكثرها من المرخ والعفار، وفي أمثالهم " في كل شجر نار واستمجد المرخ والعفار " لأن المرخ شجر سريع
٢٣
الوري، والعفار شجر تقدح منه النار، يقطع الرجل منهما غصنين مثل السواكين وهما خضراوان يقطر منهما الماء فيسحق المرخ ـ وهو ذكر ـ على العفار ـ وهي أنثى ـ فتنقدح النار بإذن الله.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : ليس من شجرة إلا وفيها النار إلا العناب لمصلحة الدق للثياب، فمن قدر على جمع الماء والنار في الشجر قدر على المعاقبة بين الموت والحياة في البشر، وإجراء أحد الضدين على الآخر بالعقيب أسهل في العقل من الجمع معاً بلا ترتيب.
والأخضر على اللفظ وقريء الخضراء على المعنى.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٢١
ثم بين أن من قدر على خلق السماوات والأرض مع عظم شأنهما فهو على خلق الأناسيّ أقدر بقوله ﴿ أَوَ لَيْسَ ﴾ في الصغر بالإضافة إلى السماوات والأرض أو أن يعيدهم لأن المعاد مثل للمبتدأ وليس به ﴿ بَلَى ﴾ أي قل بلى هو قادر على ذلك ﴿ وَهُوَ الْخَلَّـاقُ ﴾ [يس : ٨١] الكثير المخلوقات ﴿ الْعَلِيمِ ﴾ الكثير المعلومات ﴿ إِنَّمَآ أَمْرُهُ ﴾ [يس : ٨٢] شأنه ﴿ إِذَآ أَرَادَ شيئا أَن يَقُولَ لَهُ كُن ﴾ [يس : ٨٢] أن يكونه ﴿ فَيَكُونُ ﴾ فيحدث أي فهو كائن موجود لا محالة.
فالحاصل أن المكونات بتخليقه وتكوينه ولكن عبر عن إيجاده بقوله ﴿ كُن ﴾ من غير أن كان منه كاف ونون وإنما هو بيان لسرعة الإيجاد كأنه يقول : كما لا يثقل قول " كن " عليكم فكذا لا يثقل على الله ابتداء الخلق وإعادتهم، ﴿ فَيَكُونُ ﴾ شامي وعلي عطف على ﴿ يَقُولَ ﴾، وأما الرفع فلأنها جملة من مبتدأ وخبر لأن تقديرها " فهو يكون " معطوفة على مثلها وهي " أمره أن يقول له كن " ﴿ فَسُبْحَـانَ ﴾ تنزيه مما وصفه به المشركون وتعجيب من أن يقولوا فيه ما قالوا ﴿ الَّذِى بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَىْءٍ ﴾ [يس : ٨٣] أي ملك كل شيء.
وزيادة الواو والتاء للمبالغة يعني هو مالك كل شيء ﴿ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [البقرة : ٢٤٥] تعادون بعد الموت بلا فوت، ﴿ تُرْجَعُونَ ﴾ : يعقوب.
قال عليه الصلاة والسلام " إن لكل شيء قلباً وإن قلب القرآن يس "، " من قرأ يس يريد بها وجه الله غفر الله له وأعطي من الأجر كأنما قرأ القرآن اثنتين وعشرين
٢٤