السرير، وكيف تكثر الأكواب هذه الكثرة، وتطول النمارق هذا الطول، وبسط الزرابي هذا الانبساط ولم نشاهد ذلك في الدنيا؟ فقال الله تعالى ﴿ أَفَلا يَنظُرُونَ إِلَى الابِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ﴾ [الغاشية : ١٧] طويلة ثم تبرك حتى تركب أو يحمل عليها ثم تقوم فكذا السرير يطأطىء للمؤمن كما يطأطىء الإبل ﴿ وَإِلَى السَّمَآءِ كَيْفَ رُفِعَتْ ﴾ [الغاشية : ١٨] رفعاً بعيد المدى بلا إمساك وعمد، ثم نجومها تكثر هذه الكثرة فلا تدخل في حساب الخلق فكذا الأكواب ﴿ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ ﴾ [الغاشية : ١٩] نصباً ثابتاً فهي راسخة لا تميل مع طولها فكذا النمارق ﴿ وَإِلَى الارْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ﴾ [الغاشية : ٢٠] سطحاً بتمهيد وتوطئة فهي كلها بساط واحد تنبسط من الأفق إلى الأفق فكذا الزرابي ؛ ويجوز أن يكون المعنى أفلا ينظرون إلى هذه المخلوقات الشاهدة على قدرة الخالق حتى لا ينكروا اقتداره على البعث فيسمعوا إنذار الرسول ويؤمنوا به ويستعدوا للقائه، وتخصيص هذه الأربعة باعتبار أن هذا خطاب للعرب وحث لهم على الاستدلال، والمرء إنما يستدل بما تكثر مشاهدته له، والعرب تكون في البوادي ونظرهم فيها إلى السماء والأرض والجبال والإبل فهي أعز أموالهم وهم لها أكثر استعمالاً منهم لسائر الحيوانات، ولأنها تجمع جميع المآرب المطلوبة من الحيوان وهي النسل والدر والحمل والركوب والأكل بخلاف غيرها، ولأن خلقها أعجب من غيرها فإنه سخرها منقادة لكل من اقتادها بأزمتها لا تعاز ضعيفاً ولا تمانع صغيراً، وبرأها طوال الأعناق لتنوء بالأوقار، وجعلها بحيث تبرك حتى تحمل عن قرب ويسر، ثم تنهض بما حملت وتجرها إلى البلاد الشاحطة، وصبرها على احتمال العطش حتى إن ظمأها لترتفع إلى العشر فصاعداً، وجعلها ترعى كل نابت في البراري مما لا يرعاه سائر البهائم.
﴿ فَذَكِّرْ ﴾ فذكرهم بالأدلة ليتفكروا فيها ﴿ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ ﴾ [الغاشية : ٢١] ليس
٥١٦
عليك إلا التبليغ ﴿ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ ﴾ [الغاشية : ٢٢] بمتسلط كقوله ﴿ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ ﴾ [ق : ٤٥] (ق : ٥٤)، ﴿ بِمُصَيْطِرٍ ﴾ : مدني وبصري وعلي وعاصم ﴿ إِلا مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ * فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الاكْبَرَ ﴾ الاستثناء منقطع أي لست بمسؤول عليهم ولكن من تولى منهم وكفر بالله فإن لله الولاية عليه والقهر فهو يعذبه العذاب الأكبر وهو عذاب جهنم.
وقيل : هو استثناء من قوله ﴿ لِلْيُسْرَى * فَذَكِّرْ ﴾ [الأعلى : ٩] أي فذكر إلا من انقطع طمعك من إيمانه وتولى فاستحق العذاب الأكبر وما بينهما اعتراض ﴿ إِنَّ إِلَيْنَآ إِيَابَهُمْ ﴾ [الغاشية : ٢٥] رجوعهم، وفائدة تقديم الظرف التشديد في الوعيد وإن إيابهم ليس إلا إلى الجبار المقتدر على الانتقام ﴿ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُم ﴾ [الغاشية : ٢٦] فنحاسبهم على أعمالهم ونجازيهم بها جزاء أمثالهم و " على " لتأكيد الوعيد لا للوجوب إذ لا يجب على الله شيء.
٥١٧
سورة الفجر
مكية وهي تسع وعشرون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿ وَالْفَجْرِ ﴾ أقسم بالفجر وهو الصبح كقوله ﴿ وَالصُّبْحِ إِذَآ أَسْفَرَ ﴾ [المدثر : ٣٤] (المدثر : ٤٣)، أو بصلاة الفجر ﴿ وَلَيالٍ عَشْرٍ ﴾ [الفجر : ٢] عشر ذي الحجة أو العشر الأول من المحرم، أو الآخر من رمضان.وإنما نكرت لزيادة فضيلتها ﴿ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ ﴾ [الفجر : ٣] شفع كل الأشياء ووترها أو شفع هذه الليالي ووترها، أو شفع الصلاة ووترها، أو يوم النحر لأنه اليوم العاشر ويوم عرفة لأنه اليوم التاسع، أو الخلق والخالق.
﴿ وَالْوَتْرِ ﴾ حمزة وعلي، وبفتح الواو غيرهما، وهما لغتان : فالفتح حجازي والكسر تميمي.
وبعد ما أقسم بالليالي المخصوصة أقسم بالليل على العموم فقال ﴿ وَالَّيْلِ ﴾ وقيل : أريد به ليلة القدر ﴿ إِذَا يَسْرِ ﴾ [الفجر : ٤] إذا يمضي وياء ﴿ يَسْرِ ﴾ تحذف في الدرج اكتفاء عنها بالكسرة، وأما في الوقف فتحذف مع الكسرة.
وسأل واحد الأخفش عن سقوط الياء فقال : لا، حتى تخدمني سنة فسأله بعد سنة فقال : الليل لا يسري وإنما يسرى فيه، فلما عدل عن معناه عدل عن لفظه موافقة.
وقيل : معنى يسري : يسرى فيه كما يقال : ليل نائم أي ينام فيه.