وفي الحديث :"إذا بخس المكيال حبس القطر وإذا كثر الزنى كثر القتل وإذا كثر الكذب كثر الهرج" والحكمة أن الزنى إهلاك النفس لأن ولد الزنى هالك حكماً فلذلك وقع الجزاء بالموت الذريع أي : السريع لأن الجزاء من جنس العمل ألا يرى أن بخس المكيال يجازى بمنع القطر الذي هو سبب لنقص أرزاقهم وكذا الكذب سبب للتفرق والعداوة بين الناس ولهذا يجازي بالهرج الذي هو الفتنة والاختلاط وإنما عمت البلية أينما وقعت لتكون عقوبة على إخوان الشياطين وشهادة ورحمة لعباد الله الصالحين إذ الموت تحفة للمؤمن وحسرة للفاسق ثم يبعثهم الله على قدر أعمالهم ونياتهم فيجازيهم والفرار من الطاعون حرام إذ الفرار نسيان الفاعل المختار كما قال ابن مسعود رضي الله عنه : الطاعون فتنة على الفار والمقيم أما الفار فيقول بفراره نجوت وأما المقيم فيقول : أقمت فمت.
وفي الحديث "الفار من الطاعون كالفار من الزحف والصابر فيه كالصابر في الزحف" والزحف الجيش الذي يرى لكثرته كأنه يزحف أي : يدب دبيباً والمراد هنا الفرار من الجيش في الغزو ولكن يجب أن يقيد بالمثل أو الضعف فهذا الخبر يدل على أن النهي عن الخروج للتحريم وأنه من الكبائر وليس بعيداً أن يجعل الله الفرار منه سبباً لقصر العمر كما جعل الله تعالى الفرار من الجهاد سبباً لقصر العمر قال تعالى :﴿قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لا تُمَتَّعُونَ إِلا قَلِيلا﴾ (الأحزاب : ١٦) وأما الخروج بغير طريق الفرار فمرخص فيه لكن الرخصة مشروطة بشرائط صعبة لا يقدر عليها إلا الأفراد منها حفظ أمر الاعتقاد والتحرز من الأسباب العادية للمرض كالهواء الفاسد وغيره فهو رخصة لكن مباشرة الحمية لأجل الخلاص من الموت سفه وعبث لا يشك في حرمتها عوام المسلمين فضلاً عن خواصهم قالوا في بعض الأمراض سراية إلى ما يجاوره بإذن الله تعالى كما قال صلى الله تعالى عليه وسلم :
١٤٥
"إن من القرف التلف" والقرف بالتحريك مداناة المرضى وأما قوله عليه السلام :"لا عدوى" فإنما هو نفي للتعدي طبعاً كما هو اعتقاد أهل الجاهلية حيث كانوا يرون التأثير من طبيعة المرض لا نفي للسراية مطلقاً والتسبب واجب للعوام والمبتدئين في السلوك والتوكل أفضل للمتوسطين وأما الكاملون فليس يمكن حصر أحوالهم فالتوكل والتسبب عندهم سيان، قال في "المثنوي" :
جزء : ١ رقم الصفحة : ١٤٣
درحذر شوريدن شوروشر ست
روتو كل كن توكل بهترست
باقضا نه مزن اي تند وتيز
تانكيردهم قضا باتوستيز
كردخ بتيد بزد يش حكم حق
تانيايد زحم از رب الفلق
روي أن جالينوس دفع إلى أصحابه قرصين مثل البنادق وقال : اجعلوا أحدهما بعد موتي فوق الحديد الذي يعمل عليه الحدادون والآخر في حب مملوء من الماء ثم اكسروا الحب ففعلوا كما أوصى فذاب الحديد في الأرض ولم يجدوا منه شيئاً وانجمد الماء وقام بلا وعاء قال الحكماء : أراد بذلك إني وإن قدرت إلى إذابة أصلب الأجساد وإقامة الماء الذي من طبعه السيلان ما وجدت للموت دواء ولذا قال بعضهم :
ألا يا أيها المغرور تب من غير تأخير
فإن الموت قد يأتي ولو صيرت قارونا
بسل مات أرسطاليس بقراط بافلاج
وأفلاطون ببرسام وجالينوس مبطونا قال الشافعي رحمه الله أنفس ما يداوى به الطاعون التسبيح ووجهه بأن الذكر يرفع العقوبة والعذاب قال تعالى :﴿فَلَوْلا أَنَّه كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ﴾ (الصافات : ١٤٣) وكذا كثرة الصلاة على النبي المحترم صلى الله تعالى عليه وسلم لكن مثل هذا إنما يكون مؤثراً إذا اقترن بالشرائط الظاهرة والباطنة إذ ليس كل ذكر وصلاة شفيعاً عند الحضرة الإلهية، قال "المثنوي" :
كرنداري تودم خوش دردعا
رودعا ميخواه از اخوان صفاهركرا دل اك شد از اعتدال
آن دعايش ميرود تا ذو الجلال
آن دعاي بيخودان خودديكرست
آن دعا ازونيست كفت داورستآن دعا حق ميكندون او فناست
آن دعا وآن أجابت ازخداست
هين بجواين قوم را اي مبتلا
هين غنيمت دارشان يش ازيلا
جزء : ١ رقم الصفحة : ١٤٣
﴿وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى﴾ نعمة أخرى كفروها، أي : اذكروا أيضاً يا بني إسرائيل إذ سأل موسى السقيا ﴿لِقَوْمِهِ﴾ لأجل قومه وكان ذلك في التيه حين استولى عليهم العطش الشديد فاستغاثوا بموسى فدعا ربه أن يسقيهم ﴿فَقُلْنَا﴾ له بالوحي أن ﴿اضْرِب بِّعَصَاكَ﴾ وكانت من آس الجنة طولها عشرة أذرع على طول موسى ولها شعبتان تتقدان في الظلمة نوراً حملها آدم من الجنة فتوارثها الأنبياء حتى وصلت إلى شعيب فأعطاها موسى ﴿الْحَجَرَ﴾ اللام إما للعهد والإشارة إلى معلوم فقد روي أنه كان حجراً طورياً حمله معه وكان خفيفاً مربعاً كرأس الرجل له أربعة أوجه في كل وجه ثلاث أعين أو هو الحجر الذي فر بثوبه حين وضعه عليه ليغتسل وبرأه الله تعالى مما رموه به من الأدرة فأشار إليه جبريل أن ارفعه فإن الله تعالى فيه قدرة ولك
١٤٦


الصفحة التالية
Icon