الفئات القليلة غلبت الفئات الكثيرة.
والفئة اسم للجماعة من الناس قلّت أو كثرت ﴿بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ أي : بحكمه وتيسيره فإن دوران كافة الأمور على مشيئته تعالى فلا يذل من نصره وإن قل عدده ولا يعز من خذله وإن كثر أسبابه وعدده فنحن أيضاً نغلب جالوت وجنوده ﴿وَاللَّهُ مَعَ الصَّـابِرِينَ﴾ بالنصرة على العدو وبتوفيق الصبر عند الملاقاة.
قال الراغب : في القصة إيماء ومثال للدنيا وأبنائها وأن من يتناول قدر ما يتبلغ به اكتفى واستغنى وسلم منها ونجا ومن تناول منها فوق ذلك ازداد عطشاً ولهذا قيل : الدنيا كالملح من ازداد منها عطش وفي الحديث :"لو أن لابن آدم واديين من ذهب لابتغى إليهما ثالثاً فلا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب" يعني لا يزال حريصاً على الدنيا حتى يموت ويمتلىء جوفه من تراب قبره إلا من تاب فإن الله يقبل التوبة من التائب عن حرصه المذموم وعن غيره من المذمات وههنا نكتة وهي أن في ذكر ابن آدم دون الأنسال تلويحاً إلى أنه مخلوق من تراب ومن طبيعته القبض واليبس وإزالته ممكنة بأن يمطر الله عليه من غمام توفيقه فللعاقل أن لا يتعب نفسه في جمع حطام الدنيا فإن الرزق مقسوم.
أوحى الله إلى داود (يا داود تريد وأريد فإن رضيت بما أريد كفيتك ما تريد وإن لم ترض بما أريد أتعبك ثم لا يكون إلا ما أريد) فالناس مبتلون بنهر هو منهل الطبيعة الجسمانية فمن شرب منه مفرطاً في الري منه بالحرص فليس من أهل الحقيقة لأنه من أهل الطبيعة وعبدة الشهوات المشتغل بها عن الله إلا من قنع من متاع الدنيا على ما لا بد منه من المأكول والمشروب والملبوس والمسكن ومحبة الخلق على الاضطرار بمقدار القوام فإنه من أولياء الله.
والحاصل أن النهر هو الدنيا وزينتها ومن بقي على شطها واطمأن بها كثير ممن جاوزها ولم يلتفت إليها فإن أهل الله أقل من القليل وأهل الدنيا لا يحصى عددهم رزقنا الله وإياكم القوة والقناعة ولم يفصلنا عن أهل السنة والجماعة.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٣٨٧
ـ روي ـ أنه عليه السلام قال في وصيته لأبي هريرة رضي الله عنه :"عليك يا أبا هريرة بطريق أقوام إذا فزع الناس لم يفزعوا وإذا طلب الناس الأمان من النار لم يخافوا" قال أبو هريرة : من هم يا رسول الله؟ قال :"قوم من أمتي في آخر الزمان يحشرون يوم القيامة محشر الأنبياء إذا نظر إليهم الناس ظنوهم أنبياء مما يرون من حالهم حتى أعرفهم أنا فأقول : أمتي أمتي فيعرف الخلائق أنهم ليسوا أنبياء فيمرون مثل البرق أو الريح تغشى أبصار أهل الجمع من أنوارهم" فقلت : يا رسول الله مرني بمثل عملهم لعلي ألحق بهم فقال :"يا أبا هريرة ركب القوم طريقاً صعباً آثروا الجوع بعدما أشبعهم الله والعري بعدما كساهم الله والعطش بعدما أرواهم الله تركوا ذلك رجاء ما عند الله تركوا الحلال مخافة حسابه صحبوا الدنيا بأبدانهم ولم يشتغلوا بشيء منها عجبت الملائكة والأنبياء من طاعتهم لربهم طوبى لهم وددت أن الله جمع بيني وبينهم" ثم بكى رسول الله صلى الله عليه وسلّم شوقاً إليهم ثم قال عليه السلام :"إذا أراد الله بأهل الأرض عذاباً فنظر إليهم صرف العذاب عنهم فعليك يا أبا هريرة بطريقهم"، قال الشيخ العطار قدس سره :
درراه تومر دانند ازخويش نهان مانده
بي جسم وجهت كشته بي نام ونشان مائده
تنشان بشريعت هم دلشان بحقيقت هم
هم دل شده وهم جان نه اين ونه آن مانده
٣٨٩
عليهم سلام الله ورحمته وبركاته اللهم اجعلنا من اللاحقين بهم آمين آمين.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٣٨٧
﴿وَلَمَّا بَرَزُوا﴾ أي : ظهر طالوت ومن معه من المؤمنين وصاروا إلى براز أي : فضاء من الأرض في موطن الحرب ﴿لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ﴾ وشاهدوا ما عليهم من العدد والعدد وأيقنوا أنهم غير مطيقين لهم عادة ﴿قَالُوا﴾ أي : جميعاً عند تقوي قلوب الفريق الأول منهم بقول الفريق الثاني متضرعين إلى الله تعالى مستعينين به ﴿رَبَّنَآ﴾ في ندائهم بقولهم ﴿رَبَّنَآ﴾ اعتراف منهم بالعبودية وطلب لإصلاحهم لأن لفظ الرب يشعر بذلك دون غيره ﴿أَفْرِغْ عَلَيْنَا﴾ إفراغ الإناء إخلاؤه مما فيه أي : صبّ علينا وهو استعارة عن الإكمال والإكثار أتوا بلفظة على طلباً لأن يكون الصبر مستعلياً عليهم وشاملاً لهم كالظرف للمظروف ﴿صَبْرًا﴾ على مقاساة شدائد الحرب واقتحام موارده الضيقة ﴿وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا﴾ وهب لنا ما تثبت به في مداحض القتال ومزال النزال من قوة القلوب وإلقاء الرعب في قلوب العدو ونحو ذلك من الأسباب فالمراد بثبات القدم كمال القوة والرسوخ عند المقارنة وعدم التزلزل وقت المقامة لا مجرد التقرر في حيز واحد ﴿وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَـافِرِينَ﴾ بقهرهم وهزمهم ولقد راعوا في الدنيا ترتيباً بليغاً حيث قدموا سؤال إفراغ الصبر على قلوبهم الذي هو ملاك الأمر ثم سؤال تثبيت القدم المتفرع عليه ثم سؤال النصر على العدو الذي هو الغاية القصوى.