﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ﴾ أي : يوقنون لأن الظن يكون يقيناً ويكون شكاً فهو من الأضداد كالرجاء يكون أمناً وخوفاً كما في تفسير "الكواشي" ﴿أَنَّهُم مُّلَاقُوا رَبِّهِمْ﴾ معاينوه وهو كناية عن شهود مشهد العرض والسؤال يوم القيامة وهو الوجه فيما يروى في الأخبار لقي الله وهو عليه غضبان وما يجري مجراه.
وقيل : أي : يعلمون أنهم يموتون قال النبي عليه الصلاة والسلام :"من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه" وأراد به الموت ﴿وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ أي : ويعلمون أنهم راجعون يوم القيامة إلى الله تعالى أي : إلى جزائه إياهم على أعمالهم وأما الذين لا يوقنون بالجزاء ولا يرجون الثواب ولا يخافون العقاب كانت عليهم مشقة خالصة فتثقل عليهم كالمنافقين والمرائين فالصبر على الأذى والطاعات من باب جهاد النفس وقمعها عن شهواتها ومنعها من تطاولها وهم من أخلاق الأنبياء والصالحين.
قال يحيى بن اليمان : الصبر أن لا تتمنى حالة سوى ما رزقك الله والرضى بما قضى الله من أمر دنياك وآخرتك وهو بمنزلة الرأس من الجسد، قال الحافظ :
جزء : ١ رقم الصفحة : ١٢٢
كويند سنك لعل شود در مقام صبر
آرى شود وليك بخون جكر شود
ثم إن الله تعالى وصف جزاء الأعمال وجعل لها نهاية واحدة فقال :﴿مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَه عَشْرُ أَمْثَالِهَا﴾ (الأنعام : ١٦٠) وجعل جزاء الصدقة في سبيل الله فوق هذا فقال :﴿مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنابَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنابُلَةٍ﴾ (البقرة : ٢٦١) الآية وجعل أجر الصابرين بغير حساب ومدح أهله فقال :﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ (الزمر : ١٠) وقد وصف الله نفسه بالصبر كما في الحديث "ليس شيء أصبر على أذى سمعه من الله تعالى أنهم ليدعون له ولداً وأنه ليعافيهم ويرزقهم" ووصف الله بالصبر إنما هو بمعنى الحلم وهو تأخير العقوبة عن المستحقين لها.
والفرق بين الحليم والصبور أن المذنب لا يأمن العقوبة في صفة الصبور كما يأمنها في صفة الحليم.
وقيل في الخشوع أتريد أن تكون إماماً للناس ولا تعرف الخشوع ليس الخشوع بأكل الخشن ولبس الخشن لكن الخشوع أن ترى الشريف والدنيء في الحق سواء وتخشع في كل فرض افترض عليك فمن أظهر خشوعاً فوق ما في قلبه فإنما أظهر نفاقاً على نفاق.
قال سهل بن عبد الله لا تكون خاشعاً حتى تخشع كل شعرة على جسدك وهذا هو الخشوع المحمود لأن الخوف إذا سكن القلب أوجب خشوع الظاهر فلا يملك صاحبه دفعه فتراه مطرقاً متأدباً متذللاً وقد كان السلف يجتهدون في ستر ما يظهر من ذلك وأما المذموم فتكلفه والتباكي ومطأطأة الرأس كما يفعله الجهال ليروا بعين البر والإجلال وذلك خدع من الشيطان وتسويل من نفس الإنسان وكان عمر رضي الله عنه إذا تكلم أسمع وإذا مشى أسرع وإذا ضرب أوجع وكان نسكاً صدقاً وخاشعاً حقاً
١٢٥
كما في "تفسير القرطبي".
وقال في "التأويلات النجمية" :﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ﴾ عن شهوات النفس ومتابعة هواها ﴿وَالصَّلَوةِ﴾ أي : دوام الوقوف والتزام العكوف على باب الغيب وحضرة الرب ﴿وَإِنَّهَا﴾ أي : الاستعانة بهما ﴿لَكَبِيرَةٌ﴾ أمر عظيم وشأن صعب ﴿إِلا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾ وهم الذين تجلى الحق لأسرارهم فخشعت له أنفسهم كما قال عليه الصلاة والسلام :"وإذا تجلى الله لشيء خضع له" وقال :﴿وَخَشَعَتِ الاصْوَاتُ لِلرَّحْمَانِ فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا﴾ (طه : ١٠٨) فالتجلي يورث الإلفة مع الحق ويسقط الكلفة عن الخلق ﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ﴾ أي : يوقنون بنور التجلي ﴿أَنَّهُم مُّلَاقُوا رَبِّهِمْ﴾ أنهم يشاهدون جمال الحق ﴿وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ بجذبات الحق التي كل جذبة منها توازي عمل الثقلين.
جزء : ١ رقم الصفحة : ١٢٢


الصفحة التالية
Icon