وذلك عند حشر الخلائق بعد النفخة الثانية ليشاهدوها ثم يفرقها في الهواء وذلك قوله تعالى :﴿فَكَانَتْ سَرَابًا﴾ السراب ما تراه نصف النهار كأنه ماء.
قال الراغب : هو اللامع في المفازة كالماء وذلك لا نسرا به فى مرأى العين أي ذهابه وجرينه وكأن السراب فيما لا حقيقة له كالشراب فيما له حيقة أي فصارت بتسييرها مثل اسراب أي شيئاً كلا شيء لتفرق أجزائها وانبثاث جواهرها كقوله تعالى :[الواقعة : ٥]﴿وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا * فَكَانَتْ هَبَآءً مُّنابَثًّا﴾ أي غباراً منتشراً وهي وإن اندكت وانصدت عند النفخة الأولى لكن تسييرها كالسحاب وتسوية الأرض إنما يكونان بعد النفخة الثانية قيل : أول أحوال الجبال الاندكاك والانكسار كما قال تعالى : وحملت الأرض والجبال فد كتادكة واحدة وحالتها الثنية أن تصير كالعهن المنفوش وحالتها الثالثة أن تصير كالهباء وذلك بأن تنقطع وتتبدد بعد أن كان كالعهن كما قال فكانت هباء منبثاً وحالتها الرابعة أن تنسف وتقلع من أصولها لأنها مع الأحوال المتقدمة غارة في مواضعها والأرض تحتها غير بارزة فتنسف عنها بإرسال الرياح عليها وهو المراد من قوله : فقل ينسفها ربي نسفاً وحالتها الخامسة إن الرياح ترفعها عن وجه الأرض فتطيرها في الهواء كأنها غبار وهو المراد بقوله تعالى : وترى الجبال تحسها جامدة وهي تمر مر السحاب أي تراها في رأي العين ساكنة في أماكنها والحال إنها تمر مر السحاب التي تسيرها الرياح سيراً حثيثاً وذلك إن الإجرام إذا تحركت نحواً من الأنحاء لا تكاد تتبين حركتها وإن كانت في غاية السرعة لا سيما من بعيد والحالة السادسة أن تصير سراباً يقول الفقير فيه إشارة إلى إزالة أنانية النفوس وتعيناتها فإنها عند القيامة البكرى التي هي عبارة عن الفناء في الله تصير سراباً حتى إذا جثها لم تجدها شيئاً ولكن العوام المحجوبون إذا رأوا أهل الفناء يأكلون مما يأكلون منه ويشربون مما يشربون منه يظنون إن نفوسهم باقية لبقاء نفوسهم لكنهم يظنون بهم الظن السوء إذ بنهم وبينهم بون بعيد قطعاً وفاروق عظيم جداً لأنهم أزالت رياح العناية والتوفيق جبال نفوسهم عن مقار أرض البشرية وجعلها الله متلاشية وفتحت سماء أرواحهم فكانت أباباً كباب السر والخفي والأخفى فدخلوا من هذه الأبواب إلى مقام أو أدنى فكانوا مع الحق حيثك ان الحق معهم ثم نزلوا من هذه الأبواب العالية الحقيقية الناظرة إلى عالم الولاية فدخلوا في أبواب العقل والقلب والمتخيلة والمفكرة والحافظة والذاكرة فكانوا في مقام قاب قوسين مع الخلق حيث كان الخلق معهم فلم يحتجبوا بالخلق عن الحق الذي وهو جانب الولاية ولا بالحق عن الخلق الذي هو جانب النبوة فكانوا في الظاهر مصداق قوله تعالى يوحي إلى فأين المحوبون عن مقامهم وإني لهم إدراك شأنه وحقيقة أمرهم إن جهنم كان مرصادا} أي إنها كانت في حكم الله وقضائه موضع رصد يرصد فيه ويرقب خزنة النار الكفار ليعذبوهم فيها فالمرصاد اسم للمكان الذي ير صدفيه كالنهاج اسم للمكان الذي ينهج فيه أي بسلك.
قال الراغب : المرصاد موضع الرصد
٣٠١
جزء : ١٠ رقم الصفحة : ٢٩٢
كالمرصد لكن يقال للمكان الذي اختص بالترصد والترقب وقوله إن جهم كانت مرصاداً تنبيه على إن عليها مجاز الناس انتهى.
كأن عمم المرصاد حيث إن الصراط محبس للأعداء وممر للأوليا والأول أولى لأن الترصد في مثل ذلك المكان الهائل إنما هو للتعذيب وهو للكفار والأشقياء ﴿لِلطَّـاغِينَ﴾ ممتعلق بمضمر هو أما نعت لمرصادا أي كائناً للطاغين وقوله تعالى ﴿مَـاَابًا﴾ بدل منه أي مرجعاً يرجعون إليه لا محالة وإما حال من مآبا قدمت عليه لكونه نكرة ولو تُرت لكانت صفة له قالوا الطاغي من طغى في دينه بالكفر وفي دنياه بالظلم وهو في اللغة من جاوز الحد في العصيان والمراد هنا المشركون لما دل عليه ما بعده من الآيات وعد أنهم لا يتناهى لكون اعتقادهم باطلاً وكذا إذا لم يعتقدوا شيئاً أصلاً وإن كان الاعتقاد صحيحاً كالمؤمن العاصي فعذابه متناه ﴿لَّـابِثِينَ فِيهَآ﴾ حال مقدرة من المستكن في للطاغين أي مقدرين اللبث فيها واللبث أن يستقر في المكان ولا يكاد ينفك عنه يقال ليث بالمكان أقام به ملازماً له ﴿أَحْقَابًا﴾ ظرف للثهم وهو مع حقب وهو ثمانون سنة أو أكثروا لدهر والسنة أو السنون كما في "القاموس" وأصل الحقب من الترادف والتتابع يقال أحقب إذا أردف ومنه الحقيبة وهي الرفادة في مؤخر القتب وكل ما شد في مؤخر رحل أو قتب فقد حتقب والمحقب المردف وفي تاج المصادر الأحقاب در حقيبه نهادن.
جزء : ١٠ رقم الصفحة : ٢٩٢