واعلم أن مراتب السعادات إما نفسانية كالذكاء التام والحدس الكامل والمعارف الزائدة على معارف الغير بالكمية والكيفية وكالعفة والشجاعة وغير ذلك وإما بدنية كالصحة والجمال والعمر الطويل في ذلك مع اللذة والبهجة وإما خارجية ككثرة الأولاد الصلحاء وكثرة العشائر وكثرة الأصدقاء والأعوان والرياسة التامة ونفاذ القول وكونه محبوباً لقلوب الناس حسن الذكر فيهم فهي مجامع السعادات والإنسان إذا شاهد أنواع الفضائل حاصلة لإنسان ووجد نفسه خالياً عن جملتها أو عن أكثرها فحينئذٍ يتألم قلبه ويتشوش خاطره ثم يعرض ههنا حالتان : إحداهما أن يتمنى زوال تلك السعادات عن ذلك الإنسان والأخرى أن لا يتمنى ذلك بل يتمنى حصول مثلها له والأول هو الحسد المذموم لأن المقصود
١٩٨
الأول لمدبر العالم وخالقه الإحسان إلى عبيده والجود إليهم وإفاضة أنواع الكرم عليهم فمن تمنى زوال ذلك فكأنه اعترض على الله فيما هو المقصود بالقصد الأول من خلق العالم وإيجاد المكلفين وأيضاً ربما اعتقد في نفسه أنه أحق بتلك النعم من ذلك الإنسان فيكون هذا اعتراضاً على الله وقدحاً في حكمته وكل ذلك مما يلقيه في الكفر وظلمات البدعة ويزيل عن قلبه نور الإيمان وكما أن الحسد سبب الفساد في الدين فكذلك هو سبب الفساد في الدنيا فإنه يقطع المودة والمحبة والموالاة وينقلب كل ذلك إلى أضدادها فلهذا السبب نهى الله عباده عنه بقوله :﴿وَلا تَتَمَنَّوا﴾ الآية فلا بد لكل عاقل من الرضى بقضاء الله تعالى.
ـ حكى ـ الرسول صلى الله عليه وسلّم عن رب العزة أنه قال :"من استسلم لقضائي وصبر على بلائي وشكر لنعمائي كتبته صديقاً وبعثته يوم القيامة مع الصديقين ومن لم يرض بقضائي ولم يصبر على بلائي ولم يشكر لنعمائي فليطلب رباً سواي".
حاشا كه من ازجور وجفاي توبنا لم
بيداد لطفيان همه لطفست وكرامت
جزء : ٢ رقم الصفحة : ١٩٤
فهذا هو الكلام فيما إذا تمنى زوال تلك النعمة عن ذلك الإنسان.
ومما يؤكد ذلك ما روي ابن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "لا يخطب الرجل على خطبة أخيه ولا يسوم على سوم أخيه ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتقوم مقامها فإن الله هو رازقها" والمقصود من كل ذلك المبالغة في المنع من الحسد أما إذا لم يتمن ذلك بل تمنى حصول مثلها له فمن الناس من جوز ذلك إلا أن المحققين قالوا هذا أيضاً لا يجوز لأن تلك النعمة ربما كانت مفسدة في حقه في الدين ومضرة عليه في الدنيا فلهذا السبب قال المحققون أنه لا يجوز للإنسان أن يقول : اللهم أعطني داراً مثل دار فلان وزوجة مثل زوجة فلان بل ينبغي أن يقول : اللهم أعطني ما يكون صلاحاً في ديني ودنياي ومعادي ومعاشي وإذا تأمل الإنسان كثيراً لم يجد أحسن مما ذكره الله في القرآن تعليماً لعباده وهو قوله :﴿وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِى الدُّنْيَا حَسَنَةً﴾ (البقرة : ٢٠).
وعن الحسن لا يتمنى أحد المال فلعل هلاكه في ذلك المال كما في حق ثعلبة وهذا هو المراد من قوله :﴿وَسْـاَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ﴾.
قال الشيخ كمال الدين القاشاني :﴿وَلا تَتَمَنَّوا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِه بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ من الكمالات المترتبة بحسب استعداد الأولية فإن كل استعداد يقتضي بهويته في الأزل كمالاً وسعادة تناسبه وتختص به وحصول ذلك الكمال الخاص لغيره محال ولذلك ذكر طلبه بلفظ التمني الذي هو طلب ما يمتنع حصوله للطالب لامتناع سببه ﴿لِّلرِّجَالِ﴾ أي الأفراد الواصلين ﴿نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُوا﴾ بنور استعدادهم الأصلي ﴿وَلِلنِّسَآءِ﴾ أي الناقصين القاصرين عن الوصول ﴿نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ﴾ بقدر استعدادهم ﴿وَسْـاَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ﴾ أي اطلبوا منه إفاضة كمال يقتضيه استعدادكم بالتزكية والتصفية حتى لا يحول بينكم وبينه فتحجبوا وتعذبوا بنيران الحرمان منه ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَىْءٍ﴾ مما يخفى عليكم كامناً في استعدادكم بالقوة ﴿عَلِيمًا﴾ فيجيبكم بما يليق بكم كما قال تعالى :﴿وَءَاتَـاـاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ﴾ أي بلسان الاستعداد الذي ما دعاه أحد به إلا أجاب، كما قال تعالى :﴿ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ انتهى.
وعلى هذا التأويل يكون قوله :﴿وَلا تَتَمَنَّوا﴾ نهياً ومنعاً عن طلب المحال الذي فوق الاستعداد الأزلي ويكون قوله :﴿وَسْـاَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ﴾ أمراً وحثاً على طلب الممكن
١٩٩
الذي هو قدر استعدادكم كي لا تضيع فضيلة الإنسانية فإن بعض المقدورات قد يكون معلقاً على الكسب، فينبغي أن لا يتكاسل العبد في العبادات وكسب الفضائل لينال الكمالات الكامنة في خزانة الاستعداد ويسأل الله تعالى دائماً من فضله فإنه مجيب الدعوات وولي الهداية والرشاد فمن طلب شيئاً وجدّ وجد ومن قرع باباً ولجّ ولج، قال مولانا جلال الدين قدس سره :


الصفحة التالية
Icon