والقرآن لا يمسه إلا المطهرون ﴿وَإِن كُنتُم مَّرْضَى﴾ مرضاً يخاف منه الهلاك وازدياده باستعمال الماء ﴿أَوْ﴾ كنتم مستقرين ﴿عَلَى سَفَرٍ﴾ طال أو قصر ﴿أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَآئِطِ﴾ هو المكان الغائر المطمئن والمجيىء منه كناية عن الحدث لأن المعتاد أن من يريده يذهب إليه ليواري شخصه عن أعين الناس ﴿أَوْ لَـامَسْتُمُ النِّسَآءَ﴾ ملامسة النساء مماسة بشرة الرجل بشرة المرأة وهي كناية عن الجماع ومثل هذه الكناية من الآداب القرآنية إذ التصريح مستهجن ﴿فَلَمْ تَجِدُوا مَآءً﴾ المراد من عدم وجدان الماء عدم التمكن من استعماله لأن ما لا يتمكن من استعماله كالمفقود ﴿فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا﴾ أي : فتعمدوا شيئاً من وجه الأرض طاهراً فالصعيد هو وجه الأرض تراباً أو غيره سمي صعيداً لكونه صاعداً طاهراً والطيب بمعنى الظاهر سواء كان منبتاً أم لا حتى لو فرضنا صخراً لا تراب عليه فضرب المتيمم يده عليه ومسح كان ذلك كافياً عند أبي حنيفة رحمه الله ﴿فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ﴾ أي : من ذلك الصعيد، أيّ إلى المرفقين لما روي أنه صلى الله عليه وسلّم "تيمم ومسح يديه إلى مرفقيه" ولأنه بدل من الوضوء فيقدر بقدره والباء مزيدة ومن لابتداء الغاية والمعنى بعد وضعهما على الصعيد إلى الوجوه والأيدي من غير أن يتخللها ما يوجب الفصل ﴿مَا يُرِيدُ اللَّهُ﴾ بالأمر بالطهارة للصلاة أو الأمر بالتيمم ﴿لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ﴾ أي تضييقاً عليكم في الدين ﴿وَلَـاكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ﴾ أي لينظفكم أو ليطهركم من الذنوب فإن الوضوء مكفر لها كما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال :"أيما رجل قام إلى وضوئه يريد الصلاة ثم غسل كفيه نزلت خطيئة كفيه مع أول قطرة فإذا تمضمض نزلت خطيئة لسانه وشفتيه مع أول قطرة وإذا غسل وجهه ويديه إلى المرفقين ورجليه إلى الكعبين سلم من كل ذنب هو عليه وكان كيوم ولدته أمه" أو ليطهركم بالتراب إذا أعوزكم التطهير بالماء
٣٥٦
﴿وَلِيُتِمَّ﴾ بشرعه ما هو مطهرة لأبدانكم ومكفرة لذنوبكم ﴿نِعْمَتَه عَلَيْكُمْ﴾ في الدين أوليتم برخصته إنعامه عليكم بعزائمه والرخصة ما شرع بناء على الأعذار والعزيمة ما شرع أصالة ﴿لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ نعمته.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣٥٠
واعلم أن المقصود من طهارة الثوب وهو القشر الخارج البعيد ومن طهارة البدن وهو القشر القريب طهارة القلب وهو لب الباطن وطهارة القلب من نجاسات الأخلاق أهم الطهارات ولكن لا يبعد أن يكون لطهارة الظاهر أيضاً تأثير في إشراق نورها على القلب فإذا أسبغت الوضوء واستشعرت نظافة ظاهرك صادفت في قلبك انشراحاً وصفاء كنت لا تصادفه قبله وذلك لسر العلاقة التي بين عالم الملك وعالم الملكوت فإن ظاهر البدن من عالم الشهادة والقلب من عالم الملكوت وكما ينحدر من معارف القلب آثار إلى الجوارح فكذلك قد يرتفع من أحوال الجوارح التي هي من عالم الشهادة آثار إلى القلب ولذلك أمر الله بالصلاة مع أنها حركات الجوارح التي من عالم الشهادة ولذلك جعلها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في الدنيا ومن الدنيا فقال :"حبب إلي من دنياكم ثلاث الطيب والنساء وجعلت قرة عيني في الصلاة" ولا يستبعد أن يفيض من الطهارة الظاهرة أثر على الباطن وإن أردت لذلك دليلاً من الشرع فتفكر في قول رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم :"خمس بخمس إذا أكل الربا كان الخسف والزلزلة وإذا جار الحكام قحط المطر وإذا ظهر الزنى كثر الموت وإذا منعت الزكاة هلكت الماشية وإذا تعدى على أهل الذمة كانت الدولة لهم" وإن كنت تطلب لهذا مثلاً من المحسوسات أيضاً فانظر إلى ما يفيض الله من النور بواسطة المرآة المحاذية للشمس على بعض الأجسام المحاذية للمرآة وبالجملة أن الله تعالى جعل الوضوء والتيمم من أسباب الطهارة فلا بد من الاجتهاد في تحصيل الطهارة مطلقاً وإن كان التوفيق من الله تعالى، كما قال الحافظ :
فيض أزل بزورزر ار آمدي بدست
آب خضر نصيبه اسكندر آمدي