ولتعقل النفس عن طلب الدنيا بل يحرضها العقل على العبودية وينهاها عن متابعة الهوى فذكر آدم الروح لولديه ما أمر الله به فرضي هابيل القلب وسخط قابيل النفس وقال هي أختي يعني إقليما الهوى ولدت معي في بطن وهي أحسن من أخت هابيل القلب يعني ليوذا العقل وأنا أحق بها ونحن من ولائد جنة الدنيا وهما من ولائد أرض العقبى فأنا أحق بأختي فقال له أبوه إنها لا تحل لك يعني إذ كان الهوى قرينك فتهلك في أودية حب الدنيا وطلب لذاتها وشهواتها فأبى أن يقبل قابيل النفس هذا الحكم من آدم الروح وقال الله تعالى لم يأمر به وإنما هذا من رأيه فقال لهما آدم الروح قربا قرباناً فأيكما يقبل قربانه فهو أحق بها فخرجا ليقربا وكان قابيل النفس صاحب زرع يعني مدبر النفس النامية وهي القوة النباتية فقرب طعاماً من أردى زرعه وهو القوة الطبيعية وكان هابيل القلب راعياً يعني مواشي الأخلاق الإنسانية والصفات الحيوانية فقرب جملاً يعني الصفة البهيمية وهي أحب الصفات إليه لاحتياجه إليها لضرورة التغذي والبقاء ولسلامتها بالنسبة إلى الصفات السبعية الشيطانية فوضعها قربانهما على جبل البشرية ثم دعا آدم الروح فنزلت نار المحبة من سماء الجبروت فأكلت جمل الصفة البهيمية لأنها حطب هذه النار ولم تأكل من قربان قابيل النفس حبة لأنها ليست من حطبها بل هي من حطب نار الحيوانية فهذا تحقيق قوله تعالى :﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ﴾ الآية.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣٦١
والإشارة في قوله :﴿فَطَوَّعَتْ لَه نَفْسُهُ﴾ أي : نفس قابيل النفس طوعت له وجوزت ﴿قَتْلَ أَخِيهِ﴾ وهو القلب لأن النفس أعدى عدو القلب ﴿فَقَتَلَه فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَـاسِرِينَ﴾ يعني : في قتل القلب خسارة النفس في الدنيا والآخرة أما في الدنيا فتحرم عن الواردات والكشوف والعلوم الغيبية التي
٣٨٣
منشأها القلب وعن ذوق المشاهدات ولذة المؤانسات فتبقى في خسران جهولية الإنسان كقوله تعالى :﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الانسَـانَ لَفِى خُسْرٍ﴾ (العصر : ١ ـ ٢) وأما في الآخرة فتخسر الدخول في جنات النعيم ولقاء الرب الكريم والنجاة من الجحيم والعذاب الأليم وفي قوله :﴿فَبَعَثَ اللَّهُ﴾ إشارات منها ليعلم أن الله قادر على أن يبعث ﴿غُرَابًا﴾ أو غيره من الحيوان إلى الإنسان ليعلمه ما لم يعلم كما يبعث الملائكة إلى الرسل والرسل إلى الأمم ليعلموهم ما لم يعلموا، ومنها لئلا يعجب الملائكة والرسل أنفسهم باختصاصهم بتعليم الحق فإنه يعلمهم بواسطة الغراب كما يعلمهم بواسطة الملائكة والرسل، ومنها ليعلم الإنسان أنه محتاج في التعلم إلى غراب ويعجز أن يكون مثل غراب في العلم، ومنها أنتعالى في كل حيوان بل في كل ذرة آية تدل على وحدانيته واختياره حيث يبدي المعاملات المعقولة من الحيوانات الغير العاقلة، ومنها إظهار لطفه مع عباده في أسباب التعيش حتى إذا أشكل عليهم أمر كيف يرشدهم إلى الاحتيال بلطائف الأسباب لحله كذا في "التأويلات النجمية" ﴿مِنْ أَجْلِ ذَالِكَ﴾ شروع فيما هو المقصود بتلاوة النبأ من بيان بعض آخر من جنايات بني إسرائيل ومعاصيهم وذلك إشارة إلى عظم شأن القتل وإفراط قبحه أي من أجل كون القتل على سبيل العدوان مشتملاً على أنواع المفاسد من خسارة جميع الفضائل الدينية والدنيوية وجمع السعادات الأخروية كما هي مندرجة في إجمال قوله :﴿فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَـاسِرِينَ﴾ ومن الابتلاء بجميع ما يوجب الحسرة والندامة من غير أن يكون لشيء منها ما يدفعه البتة كما هو مندرج في إجمال قوله ﴿فَأَصْبَحَ مِنَ النَّـادِمِينَ﴾ وأجل في الأصل مصدر أجل شراً إذا جناه وهيجه استعمل في تعليل الجنايات أي في جعل ما جناه الغير علة لأمر يقال فعلته من أجلك أي بسبب أن جنيت ذلك وكسبته ثم اتسع فيه واستعمل في كل تعليل ومن لابتداء الغاية متعلقة بقوله تعالى :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣٦١