فكما أن الانتفاع بالخاتم إنما يكون لمن كان له مشرب سليمان كذلك الانتفاع بالكتاب إنما يكون لمن له تقوي رجحاني ﴿وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الانجِيلِ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ﴾ أي : آتيناه الإنجيل وقلنا ليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه.
﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ﴾ منكراً له مستهيناً به ﴿فَأُوالَـائِكَ هُمُ الْفَـاسِقُونَ﴾ المتمردون الخارجون عن الإيمان وفيه دلالة على أن الإنجيل مشتمل على الأحكام وأن عيسى عليه السلام كان مستقلاً بالشرع مأموراً بالعمل بما فيه من الأحكام قلت أو كثرت لا بما في التوراة خاصة وفيه تهديد عظيم للحكام وفي الحديث "يؤتى بالقاضي العدل
٣٩٨
يوم القيامة فيلقى من شدة العذاب ما يتمنى أنه لم يفصل بين أحد في تمرتين" فإذا كان هذا حال القاضي العدل فما ظنك بالجائر والمرتشي.
بو حنيفه قضا نكرد وبمرد
تو بميرى اكر قضانكني
وفي الحديث "القضاة ثلاثة قاضيان في النار وقاضضٍ في الجنة قاضضٍ قضي بغير حق وهو يعلم فذاك في النار وقاضضٍ قضي وهو لا يعلم فأهلك حقوق الناس فذاك في النار وقاضضٍ قضي بحق فذاك في الجنة" كذا في "المقاصد الحسنة" للإمام السخاوي.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣٦١
ـ حكي ـ أن بني إسرائيل كانوا ينصبون لإجراء الأحكام بينهم حكاماً ثلاثة حتى إذا رفع الخصم الأمر إلى واحد منهم فلم يرض به الآخر ترافعاً إلى الثاني ثم إلى الثالث ليطمئن قلبه فذات يوم تصور ملك بصورة إنسان يريد امتحان هؤلاء الحكام فركب على رمكة وقام على رأس بئر فإذا رجل أتى ببقرة له مع عجلها ليسقيهما فلما سقاهما وأراد الرجوع أشار الملك إلى العجل فجاء في جنب الرمكة فكلما نادى صاحبه ودعاه لم يستمع ولم يذهب إلى الأم فجاء الرجل ليسوقه بأي وجه يمكن فقال الملك : يا هذا الرجل إن العجل قد ولدته رمكتي هذه فاذهب وخلني وعجلي فقال الرجل : يا عجباً العجل ملكي قد ولدته بقرتي هذه فتنازعا وترافعا إلى القاضي الأول فسبق الملك الرجل إلى القاضي وقال : إن قضيت لي بالعجل دفعت لك كذا فقبله القاضي فلما تحاكما حكم بالعجل للملك فلم يرض به الرجل فترافعا إلى الثاني فحكم هو أيضاً بالعجل للملك فلم يرض به الرجل أيضاً فترافعا إلى الثالث فلما عرض الملك الرشوة عليه قال : لا أستطيع هذا الحكم فإني قد حضت فقال الملك : أيش تقول هل تحيض الرجال والحيض من خواص النساء فقال القاضي له : تتعجب من كلامي ولا تتعجب من كلامك فكما أن الرجال لا تحيض فكذلك الرمكة لا تلد عجلاً فقال الملك هناك قاضيان في النار وقاض في الجنة وهذا الكلام منقول من لسانه كذا ذكر البعض نقلاً عن فم حضرة الشيخ الشهير بهدائي الاسكداري قدس سره.
﴿وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ﴾ يا محمد ﴿الْكِتَـابِ﴾ أي : القرآن حال كونه ملتبساً ﴿بِالْحَقِّ﴾ والصدق حال كونه ﴿مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَـابِ﴾ أي : مصدقاً لما تقدمه من جنس الكتب المنزلة من حيث أنه نازل حسبما نعت فيه وموافقاً له في التوحيد والعدل وأصول الشرائع.
﴿وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ﴾ أي : رقيباً على سائر الكتب المحفوظة عن التغير فإنه يشهد لها بالصدق والصحة والثبات وتقرر أصول شرائعها وما يتأبد من فروعها ويعين أحكامها المنسوخة ببيان انتهاء مشروعيتها المستفادة من تلك الكتب وانقضاء وقت العمل بها ولا ريب أن تمييز أحكامها الباقية على المشروعية أبدا عما انتهى وقت مشروعيته وخرج عنها من أحكام كونه مهيمناً عليها ﴿فَاحْكُم بَيْنَهُمْ﴾ الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها أي إذا كان شأن القرآن كما ذكر فاحكم بين أهل الكتاب عند تحاكمهم إليك
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣٦١
﴿بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ﴾ أي : بما أنزله إليك فإنه مشتمل على جميع الأحكام الشرعية الباقية في الكتب الإلهية ﴿وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ الْحَقِّ﴾ بالانحراف عنه إلى ما يشتهونه فعن متعلقة بلا تتبع على تضمين معنى العدول ونحوه كأنه قيل : لا تعدل عما جاءك من الحق متبعاً أهواءهم ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾ الخطاب بطريق الالتفات للناس كافة لكن لا للموجودين خاصة بل للماضين أيضاً بطريق التغليب واللام
٣٩٩


الصفحة التالية
Icon