تصريح بنفي المستفهم عنه بعد تقديم ما يدل عليه أي : ما أمرتهم إلا ما أمرتني به وإنما قيل ما قلت لهم نزولاً على قضية حسن الأدب ومراعاة لما ورد في الاستفهام ﴿أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّى وَرَبَّكُمْ﴾ تفسير للضمير في به وفي أمرت معنى القول وليس تفسيراً لما في قوله ما أمرتني لأنه مفعول لصريح القول والتقدير إلا ما أمرتني به بلفظ هو قولك أن اعبدوا الله ربي وربكم ﴿وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا﴾ رقيباً أراعي أحوالهم وأحملهم على العمل بموجب أمرك وأمنعهم عن المخالفة أو مشاهداً لأحوالهم من كفر وإيمان ﴿مَّا دُمْتُ فِيهِمْ﴾ أي : مدة دوامي فيما بينهم ﴿فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِى﴾ أي : قبضتني إليك من بينهم ورفعتني إلى السماء ﴿كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ﴾ أي : أنت لا غيرك كنت الحافظ لأعمالهم والمراقب لها فمنعت من أردت عصمته عن المخالفة بالإرشاد إلى الدلائل والتنبيه عليها بإرسال الرسول وإنزال الآيات وخذلت من خذلت من الضالين فقالوا ما قالوا ﴿وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدٌ﴾ مطلع عليه مراقب له فعلى متعلقة بشهيد والتقديم لمراعاة الفاصلة ﴿إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ﴾ أي : فإنك تعذب عبادك ولا اعتراض على المالك المطلق فيما يفعل بملكه.
وفيه
٤٦٦
تنبيه على أنهم استحقوا التعذيب حيث عبدوا غيره تعالى ﴿وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ أي : فلا عجز ولا استقباح فإنك القادر والقوي على الثواب والعقاب الذي لا يثبت ولا يعاقب إلا عن حكمة وصواب فإن المغفرة مستحسنة لكل مجرم فإن عذبت فعدل وإن غفرت ففضل.
فإن قلت مغفرة المشرك قطعية الانتفاء بحسب الوجود وتعذيبه قطعي الوجود فما معنى أن المستعمل فيما كان كل واحد من جانبي وجوده وعدمه جائزاً محتمل الوقوع، قلت كون غفران المشرك قطعي الانتفاء بحسب الوجود لا نافي كونه جائز الوجود بحسب العقل فصح استعمال كلمة أن فيهما لأنه يكفي في صحة استعمالها مجرد الإمكان الذاتي والجواز وقيل الترديد بالنسبة إلى فرقتين والمعنى إن تعذبهم أي من كفر منهم وإن تغفر لهم أي من آمن منهم.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٤٤
ـ روي ـ أنه لما نزلت هذه الآية أحيى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بها ليلته وكان بها يقوم وبها يقعد وبها يسجد ثم قال :"أمتي أمتي يا رب" فبكى فنزل جبرائيل عليه السلام فقال : الله يقرئك السلام ويقول لك إنا سنرضيك في أمتك ولا نسؤك ﴿قَالَ اللَّهُ﴾ أي : يقول الله تعالى يوم القيامة عقيب جواب عيسى عليه السلام مشيراً إلى صدقه في ضمن بيان حال الصادقين الذين هو في زمرتهم ﴿هَاذَآ﴾ أي : يوم القيامة وهو مبتدأ وخبره ما بعده ﴿يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ﴾ المراد الصدق في الدنيا فإن النافع ما كان حال التكليف فالجاني المعترف يوم القيامة بجنايته لا ينفعه اعترافه وصدقه وكذا الجاني المعترف في الدنيا بجنايته لا ينفعه يومئذٍ اعترافه وصدقه فإنه ليس المراد كل من صدق في أي : شيء كان بل في الأمور الدينية التي معظمها التوحيد الذي نحن بصدده والشرائع والأحكام المتعلقة به والصادقون الرسل الناطقون بالصدق الداعون إلى ذلك والأمم المصدقون لهم المعتقدون بهم عقداً وعملاً ﴿لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَدًا﴾ كأنه قيل مالهم من النفع فقيل لهم نعيم دائم وثواب خالد وهو الفوز الكبير.
قوله أبداً أي : إلى الأبد تأكيد للخلود يعني بالفارسية (زمان بود ايشان نهايت ندارد) ﴿رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ﴾ بالطاعة ﴿وَرَضُوا عَنْهُ﴾ بنيل الكرامة والرضوان فيض زائد على الجنات لا غاية وراءه ولذلك قال تعالى :﴿ذَالِكَ﴾ أي : نيل الرضوان ﴿هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ أي : النجاة الوافرة وحقيقة الفوز نيل المراد وإنما عظم الفوز لعظم شأن المطلوب الذي تعلق به الفوز وهو الرضى الذي لا مطلب وراءه أصلاً ﴿مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالارْضِ وَمَا فِيهِنَّ﴾ تحقيق للحق وتنبيه على كذب النصارى وفساد ما زعموا في حق المسيح وأمه أي : له تعالى خاصة ملك السموات والأرض وما فيهما من العقلاء وغيرهم يتصرف فيها كيف يشاء إيجاداً وإعداماً وإماتة وإحياء وأمراً ونهياً من غير أن يكون لشيء من الأشياء مدخل في ذلك ﴿وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرُ﴾ بالغ في القدرة منزه عن العجز والضعف ومقدس تبارك وتعالى وتقدس :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٤٤
نيست خلقش را دكركس مالكي
شركتش دعوى كندجز هالكي
واحد اندر ملك واورا يارني
بندكانش را جزاو سالارني
واعلم أن الآية نطقت بنفع الصدق يوم القيامة فلا ينفع الكذب والرياء بوجه من الوجوه أصلاً.
٤٦٧
دلا دلالت خيرت كنم براه نجات
مكن بفسق مباهات وزهد هم مفروش
فعلى العاقل أن يجتهد في طريق الصدق فإن الصدق بعد الإيمان يجر إلى الإحسان وقبل الإيمان إلى الإيمان.


الصفحة التالية
Icon