وقيل : عظمت على أهلهما خوفاً من شدائدهما وما فيها من الأهوال ومن جملة أهوالها فناء من في السموات والأرض وهلاكهم وذلك ثقيل على القلوب.
﴿لا تَأْتِيكُمْ إِلا بَغْتَةً﴾ إلا فجأة على غفلة فتقوم والرجل يسقي ماشيته، والرجل يصلح حوضه، والرجل يقوم سلعته في سوقه والرجل يخفض ميزانه ويرفعه والرجل يهوي لقمة في فمه فما يدرك أن يضعها في فمه.
﴿يَسْـاَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِىٌّ عَنْهَا﴾ أي : عالم بها من حفي عن الشيء إذا بالغ في السؤال عنه، ومن استقصى في تعلم الشيء وبالغ في السؤال عنه لزمه أن يستحكم علمه به ويعلمه بأقصى ما يمكن ويكون ماهراً في العلم، فلذلك كنى بقوله تعالى :﴿كَأَنَّكَ حَفِىٌّ عَنْهَا﴾ عن كونه عليه السلام عالماً بها بأقصى ما يمكن والتعدية بعن مع كونه بمعنى العالم، وهو يتعدى بالباء لكونه متمضناً لمعنى بليغ في السؤال عنها حتى أحكمت علمها والجملة التشبيهية في محل النصب على أنها حال من الكاف أي يسألونك مشبهاً حالك عندهم بحال من هو حفي عنها، أي : مبالغ في العلم بها.
﴿قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ﴾ الفائدة في إعادته رد المعلومات كلها إلى الله تعالى، فيكون التكرار على وجه التأكيد والتمهيد للتعريض بجهلهم بقوله :﴿وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ اختصاص علمها به تعالى فبعضهم ينكرونها رأساً وبعضهم يعلمون أنها واقعة البتة ويزعمون أنك واقف على وقت وقوعها فيسألونك جهلاً وبعضهم يدعون أن العلم بذلك من مواجب الرسالة فيتخذون السؤال عنها ذريعة إلى القدح في رسالتك.
﴿قُل لا أَمْلِكُ لِنَفْسِى نَفْعًا وَلا ضَرًّا﴾ أي : جلب نفع ولا دفع ضر فمن لا يعلم أن نفعه في أي الأشياء ومضرته في أيها كيف يعلم وقت قيام الساعة واللام متعلق بأملك.
قال سعدي لي المفتي : والظاهر إنه متعلق بنفعاً ولا ضراً ﴿إِلا مَا شَآءَ اللَّهُ﴾ أن أملكه من ذلك بأن يلهمنيه فيمكنني منه ويقدرني عليه فالاستثناء متصل أو لكن ما شاء الله من ذلك كائن، فالاستثناء منقطع وهذا أبلغ في إظهار العجز عن علمها.
﴿وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ﴾ أي : جنس الغيب ﴿اسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ﴾ أي : لجعلت المال والمنافع كثيراً على أن يكون بناء استفعل للتعدية كما في نحو استذله.
﴿وَمَا مَسَّنِىَ السُّواءُ﴾ من كيد العدو والفقر والضر وغيرها.
﴿إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ﴾ أي : ما أنا إلا عبد مرسل للإنذار، والبشارة شأني ما يتعلق بهما من العلوم الدينية والدنيوية لا الوقوف على الغيوب التي لا علاقة بينها وبين الأحكام والشرائع وقد كشفت من أمر الساعة ما يتعلق به الإنذار من مجيئها لا محالة واقترابها، وأما تعيين وقتها فليس مما يستدعيه الإنذار بل هو مما يقدح فيه لما مر من أن إبهامه أدعى إلى الانزجار عن المعاصي.
﴿لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ إما متعلق بهما جميعاً لأنهم ينتفعون بالإنذار كما ينتفعون بالبشارة، وإما بالبشير فقط وما يتعلق بالنذير محذوف أي نذير للكافرين أي الباقين على الكفر وبشير لقوم يؤمنون أي في أي وقت كان ففيه ترغيب للكفرة في أحداث الإيمان وتحذير عن الإصرار على الكفر والطغيان.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢٩١
قال الحدادي في "تفسيره" : في الآية دلالة على بطلان قول
٢٩٢
من يدعي العلم بمدة الدنيا ويستدل بما روي أن الدنيا سبعة آلاف سنة لأنه لو كان كذلك كان وقت قيام الساعة معلوماً وأما قوله صلى الله عليه وسلّم "بعثت أنا والساعة كهاتين" وأشار إلى السبابة والوسطى فمعناه تقريب الوقت لا تحديده كما قال تعالى :﴿فَقَدْ جَآءَ أَشْرَاطُهَا﴾ (محمد : ١٨) أي : مبعث النبي عليه السلام من أشراطها انتهى.
يقول الفقير : رواية عمر الدنيا وردت من طرق شتى صحاح لكنها لا تدل على التحديد حقيقة فلا يلزم أن يكون وقت قيام الساعة معلوماً لأحد أياً من كان من ملك أو بشر.
وقد ذهب بعض المشايخ إلى أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يعرف وقت الساعة بإعلام الله تعالى وهو لا ينافي الحصر في الآية كما لا يخفى.
وفي "صحيح مسلم" عن حذيفة قال :"أخبرني رسول الله صلى الله عليه وسلّم بما هو كائن إلى أن تقوم الساعة" وفي الحديث :"إنديكاً جناحاه موشيان بالزبرجد واللؤلؤ والياقوت جناح له بالمشرق، وجناح له بالمغرب، وقوائمه في الأرض السفلى، ورأسه مثني تحت العرش فإذا كان السحر الأعلى خفق بجناحيه، ثم قال : سبوح قدوس ربنا الله لا إله غيره فعند ذلك تضرب الديكة أجنحتها، وتصيح فإذا كان يوم القيامة قال الله تعالى ضم جناحك وغض صوتك فيعلم أهل السموات والأرض أن الساعة قد اقتربت".


الصفحة التالية
Icon