واعلم : أن من اشتغل باسم من الأسماء وداوم فيه فلا ريب أن يحصل بينه وبين سر هذا الاسم المشتغل به وروحه بعناية الله تعالى وفضله مناسبة ما بقدر الاشتغال ومتى قويت تلك المناسبة وكملت بحسب قوة الاشتغال وكماله يحصل بينه وبين مدلوله من الأسماء الحقية بواسطة هذه المناسبة الحاصلة مناسبة بقدرها قوة وكمالاً ومتى بلغت إلى حد الكمال أيضاً هذه المناسبة الثانية الحاصلة بينه وبين هذا الاسم بجود الحق سبحانه وعطائه يحصل بينه وبين مسماه الحق تعالى مناسبة بمقدار المناسبة الثانية من جهة القوة والكمال لأن العبد بسبب هذه المناسبة يغلب قدسه على دنسه ويصير مناسباً لعالم القدس بقدر ارتفاع حكم الدنس فحينئذٍ يتجلى الحق سبحانه له من مرتبة ذلك الاسم بحسبها وبقدر استعداده ويفيض عليه ما شاء من العلوم والمعارف والأسرار الإلهية والكونية حسبما يقتضيه الوقت ويسعه الموطن وتستدعيه القابلية فيطلع بعد ذلك على ما يطلع عليه قبله فيحصل له العلم والمعرفة بعد الجهل والغفلة كذا في "حواشي تفسير الفاتحة" لحضرة شيخنا الأجل أمدنا الله بمدده إلى حلول الأجل، واتفق المشايخ والعلماء بالله على أن من لا ورد له لا وارد له، وانقطاعه عن بعض ورده بسبب من الأسباب سوى السفر والمرض والهرم والموت علامة البعد من الله تعالى والخذلان، فينبغي لمن كان له ورد ففاته ذلك أن يتداركه ويأتي به ولو بعد أسبوع ومن هنا تقضي الصوفية التهجد مع أنه ليس من الفرائض والسر في هذا أن المراد من الأوراد بل من سائر العبادات تغيير صفات الباطن وقمع رذائل القلب وآحاد الأعمال يقال آثارها بل لا يحس بآثارها وإنما يترتب الأثر على المجموع وإذا لم يكن يعقب العمل الواحد أثراً محسوساً ولم يردف بثان وثالث على القرب والتوالي انمحى الأثر الأول أيضاً ولهذا السر قال صلى الله عليه وسلّم "أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل" أي العمل.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٠١
قال ابن ملك : وإنما كان العمل الذي يداوم عليه أحب لأن النفس تألف به ويدوم بسببه الإقبال على الله تعالى ولهذا ينكر أهل التصوف ترك الأوراد كما ينكرون
٣٠٧
ترك الفرائض انتهى.
قال بعض العلماء بالله : لا يستحقر الورد إلا جهول، يعني : بحق ربه وحظ نفسه ووجه وصوله إليهما أن الوارد يوجد في الدار الآخرة على حسب الورد إذ جاء في الحديث :"إن الله تعالى يقول ادخلوا الجنة برحمتي وتقاسموها بأعمالكم" والورد ينطوي بانطواء هذه الدار فيفوت ثوابه بحسب فواته إذ هو مرتب عليه.
وأولى ما يعتني به عند العقلاء الأكياس ما لا يخلف وجوده ؛ إذ تذهب فائدته بذهابه فإذا تعللت نفسك بعدم طلب الثواب فقل لها الورد هو طالب ذكره منك إذ هو حق العبودية وإن ركنت إلى طلب العوض فقل والوارد أنت تطلبينه منه لا من حظ نفسك وأين ما هو طالبه منك من واجب حقه مما هو مطلبك منه من غرضك وحظك فطب نفساً بالعمل لمولاك وسلم له فيما به يتولاك فقد قالوا كن طالب الاستقامة ولا تكن طالب الكرامة فإن نفسك تهتز وتطلب الكرامة ومولاك يطالبك بالاستقامة ولأن تكون بحق ربك أولى لك من أن تكون بحظ نفسك.
قال الحافظ :
صحبت حور نخواهم كه بود عين قصور
باخيال تواكر با دكرى ردازم
قال في "التأويلات النجمية" :﴿وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ﴾ أي : اذكره بالأفعال والأخلاق والذات في نفسك بأن تبدل أفعال نفسك بالأعمال التي أمر الله بها وتبدل أخلاقها بأخلاق الله وتفني ذاتها في ذات الله وهذا كما قال :"وإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي" وهو سر قوله ﴿فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ﴾ (البقرة : ٥٢) ألا ترى أن الفراش لما ذكر الشمعة في نفسه بإفناء ذاته في ذاتها كيف ذكرته الشمعة بإبقائه ببقائها على أن تلك الحضرة منزهة عن المثل والمثال ﴿تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ﴾ التضرع من باب التكلف أي بداية هذا الذكر بتبديل أفعال النفس بأعمال الشريعة تكون بالتكلف ظاهرة ووسطه بالتخلف بأخلاق الله وبآداب الطريقة يكون مخفياً باطناً ونهايته بإفناء ذاتها في ذاته بأنوار الحقيقة تكون منهياً عن جهر القول بها وهذا حقيقة قوله عليه السلام :"إفشاء سر الربوبية كفر" ﴿بِالْغُدُوِّ وَالاصَالِ﴾ يشير إلى غدو الأزل وآصال الأبد فإن الذكر الحقيقي والمذكور الحقيقي هو الذاكر الحقيقي والذكر والمذكور في الحقيقة هو الله الأزلي الأبدي لأنه تعالى قال في الأزل :﴿فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ﴾ (البقرة : ٥٢) ففي الأزل ذكرهم لما خاطبهم وكان هو الذاكر والمذكور على الحقيقة على أنا نقول ما ذكره إلا هو وهذا حقيقة قول يوسف بن حسين الرازي ما ذكر أحد الله إلا الله ولهذا قال تعالى :﴿وَلا تَكُن مِّنَ الْغَـافِلِينَ﴾ الذين لا يعلمون أن الذاكر والمذكور هو الله في الحقيقة انتهى ما في "التأويلات النجمية".
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٠١


الصفحة التالية
Icon