أصحابه وهم يسألون أسلم وكان يقول لهم خرج فلان وفلان وأبو بكر يضربه بالعصا، ويقول له كذبت أتجبن الناس فقال عليه السلام :"إن صدقكم ضربتموه وإن كذبكم تركتموه" فعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قد عرف أمرهم فساروا حتى نزلوا في كثيب أعفر، أي : في تل من الرمل الأحمر تسوخ فيه الأقدام أي تدخل وتغيب على غير ماء بالجانب الأقرب من المدينة من الوادي، ونزل المشركون بجانبه الأبعد من المدينة الأقرب إلى مكة والوادي بينهما ثم باتوا ليلتم تلك وناموا، ثم استيقظوا وقد أجنب أكثرهم وغلب المشركون على ماء بدر وليس معهم ماء فتمثل لهم الشيطان فوسوس إليهم وقال : أنتم يا أصحاب محمد تزعمون أنكم على الحق وأنكم أولياء الله وفيكم رسوله وإنكم تصلون على غير وضوء وعلى الجنابة وقد عطشتم ولو كنتم على الحق ما سبقكم المشركون إلى الماء وغلبوكم عليه وما ينتظرون إلا أن يضعفكم العطش، فإذا قطع أعناقكم مشوا إليكم فقتلوا من أحبوا وساقوا بقيتكم إلى مكة فحزنوا حزناً شديداً فأشفقوا فأنزل الله عليهم المطر ليلاً حتى سال الوادي وامتلأ من الماء فاغتسل المسلمون وتوضؤوا وشربوا وسقوا دوابهم وبنوا على عدوته أي جانبه حياضاً واشتد الرمل وتلبدت بذلك أرضهم وأوحل أرض عدوهم حتى ثبتت عليها الأقدام وزالت وسوسة الشيطان وطابت النفوس وقويت القلوب وتهيؤوا للقتال من الغد فذلك قوله تعالى :﴿إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ﴾ أي : اذكروا أيها المؤمنون وقت جعل الله النعاس وهو أول النوم قبل أن يثقل غاشياً لكم ومحيطاً وملقى عليكم.
﴿أَمَنَةً مِّنْهُ﴾ منصوب على العلية بفعل مترتب على الفعل المذكور أي يغشيكم النعاس فتنعسون أمناً كائناً من الله تعالى لا كلاً لا وإعياء فيتحد الفاعلان لأن الأمن فعل النعاس.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣١٧
قال في "التأويلات النجمية" : يشير إلى أن النعاس في المعركة عند مواجهة العدو والأمن منه بدل الخوف إنما هو من تقليب الحال إلى ضده بأمر التكوين، كما قال تعالى للنار : يا نَارُ كُونِى بَرْدًا وَسَلَـامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} (الأنبياء : ٦٩) فكانت كذلك قال للخوف كن أمناً على محمد وأصحابه فكان انتهى.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه :"النعاس عند القتال أمن من الله تعالى وهو في الصلاة من الشيطان".
قال الحسن : إن للشيطان ملعقة ومكحلة فملعقته الكذب ومكحلته النوم عند الذكر.
﴿وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّنَ السَّمَآءِ مَآءً لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ﴾ أي : بذلك الماء يعني المطر من الحدث والجنابة.
﴿وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَـانِ﴾ أي : وسوسته وتخويفه إياكم من العطش، ويقال أراد بالرجز الجنابة التي أصابتهم بالاحتلام فإن الاحتلام إنما يكون من رجز الشيطان، أي : تخييله ووسوسته ولذلك قال بعضهم من كتب اسم عمر على صدره لم يحتلم فإن الشيطان كان يفر منه ويسلك فجاً غير الفج الذي أقبل هو منه.
﴿وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ﴾ الربط الشد والتقوية وعلى صلة.
والمعنى وليربط قلوبكم ويشدها ويقويها بجعلها واثقة بلطف الله تعالى وكرمه وجيء بكلمة على للإيذان بأن قلوبهم امتلأت من ذلك الربط حتى كأنه علا عليها وارتفع فوقها.
﴿وَيُثَبِّتَ بِهِ﴾ أي : بذلك الماء ﴿الاقْدَامَ﴾ حتى لا تسوخ في الرمل، ويجوز أن يكون الضمير للربط فإن الأقدام إنما تثبت في الحرب بقوة القلب وتمكن الصبر والجراءة فيه.
دلا در عاشقي ثابت قدم باش
كه در اين ره نباشد كار بى اجر
٣٢٠
وبمثل الصدق والصبر وارتباط القلب وثبات الأقدام سادت الصحابة الكرام من عداهم إلى يوم القيام ولا فضل لأحد على أحد إلا بالديانة والتقوى.


الصفحة التالية
Icon