﴿إِنَّمَا السَّبِيلُ﴾ بالمعاتبة ﴿عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ﴾ في التخلف ﴿وَهُمْ أَغْنِيَآءُ﴾ واجدون لأهبة الغزو مع سلامتهم ﴿رَضُوا﴾ استئناف تعليل لما سبق كأنه قيل ما بالهم استأذنوا وهم أغنياء، فقيل : رضوا ﴿بِأَن يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ﴾ أي : النساء رضى بالدناءة وإيثاراً للدعة ﴿وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ (ومهر نهاد خداى تعالى ازخذلان بردلهاى ايشان) حتى غفلوا عن وخامة العاقبة.
﴿فَهُمْ﴾ بسبب ذلك ﴿لا يَعْلَمُونَ﴾ أبداً غائلة ما رضوا به وما يستتبعه آجلاً كما لم يعلموا بخساسة شأنه آجلاً.
قال أرسطوا : الارتقاء إلى السؤدد صعب، والانحطاط إلى الدناءة سهل.
وسئل عيسى عليه السلام، أي الناس أشرف؟ فقبض قبضتين من تراب، ثم قال : أي هذين
٤٨٥
أشرف؟ ثم جمعهما وطرحهما، وقال الناس كلهم من تراب وأكرمهم عند الله أتقاهم، فالعلو والشرف في التقوى واختيار المجاهدة على الراحة والحزن والبكاء على الفرح والسرور، وفي الحديث :"أقرب الناس إلى الله يوم القيامة من طال حزنه وعطشه وجوعه".
وقال حكيم : الدنيا سوق الآخرة، والعقل قائد الخير، والمال رداء التكبر، والهوى مركب المعاصي، والحزن مقدمة السرور.
قال الصائب :
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٨٥
هر محنتى مقدمه راحتي بود
شد همزبان حق وزبان كليم سوخت
وقد ذم الله تعالى أهل النفاق بالفرح والاستهزاء ومدح أهل الإخلاص بالحزن والبكاء وأدى ضحك أولئك إلى البكاء الكثير وبكاء هؤلاء إلى الضحك الوفير.
وفي "المثنوي" :
تا نكريد ابركى خندد من
تانكريد طفل كى جوشد لبن
هركا آب روان سبزه بود
هر كجا اشك روان رحمت شود
باش ون دولاب نالان شم تر
تاز صحن جانت بر رويد خضر
ثم إن الله تعالى إنما يمنع المرء عن مراده ليستعد له وليزداد شوقه ألا ترى إلى النبي عليه السلام كيف قال :﴿لا أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ﴾ عزة وترفعاً واستغناء ودلالاً كما قال تعالى لموسى عليه السلام عند سؤاله بقوله :﴿رَبِّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَا قَالَ لَن تَرَانِى﴾ (الأعراف : ٤٣) ليزيد بهذا المنع والتعزر شوق موسى عليه السلام فكان منع النبي عليه السلام عنهم من هذا القبيل فزادهم الشوق والحرص على الغزو فلما غلب الشوق وزاد الطلب أعطوا مأمولهم وأجيب سؤلهم كما سبق وهذه حال الصورة وقس عليها حال المعنى فكما أن الفرح في عالم الصورة لا يقدر على الطيران قبل نبات الجناح وهو من الشعر فكذا العاشق لا يقدر على الطيران في عالم المعنى قبل وجود الجناح وهو من العلم والعمل والشوق إلى المولى والتوجه إلى الحضرة العليا وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "رأيت جعفر بن أبي طالب ملكاً يطير في الجنة ذا جناحين يطير بهما حيث شاء مخضوبة قوادمه بالدماء" قال الإمام المنذري : وكان جعفر قد ذهبت يداه في سبيل الله يوم مؤته فأبدله الله بهما جناحين فمن أجل ذا سمي جعفر الطيار.
قال السهيلي : ما ينبغي الوقوف عليه في معنى الجناحين إنهما ليسا كما سبق إلى الوهم على مثل جناحي الطائر وريشه لأن الصورة الآدمية أشرف الصور وأكملها وفي قوله عليه السلام :"إن الله خلق آدم على صورته" تشريف لها عظيم وحاشمن التشبيه والتمثيل ولكنها عبارة عن صورة ملكية وقوة روحانية أعطيها جعفر كما أعطيها الملائكة وقد قال الله تعالى لموسى عليه السلام :﴿وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ﴾ (طه : ٢٢) فعبر عن العضد بالجناح توسعاً وليس ثمة طيران فكيف بمن أعطي القوة على الطيران مع الملائكة أخلق به إذن بوصف الجناح مع كمال الصورة الآدمية وتمام الجوارح البشرية وقد قال أهل العلم في أجنحة الملائكة ليست كما يتوهم من أجنحة الطير ولكنها صفات ملكية لا تفهم إلا بالمعاينة واحتجوا بقوله تعالى :﴿أُوْلِى أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلَـاثَ وَرُبَـاعَ﴾ (فاطر : ١) فكيف تكون كأجنحة الطير على هذا ولم ير طائر له ثلاثة أجنحة ولا أربعة فكيف بستمائة جناح كما جاء في صفة جبريل فدل على أنها صفات لا تنضبط كيفيتها للفكر ولا ورد أيضاً في بيانها خبر فيجب علينا
٤٨٦
الإيمان بها ولا يفيدنا إعمال الفكر في كيفيتها علماً وكل امرىء قريب من معاينة ذلك فإما أن يكون من الذين ﴿تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملائكة أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ﴾ (فصلت : ٣٠) وإما أن يكون من الذين تقول لهم الملائكة :﴿بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ﴾ (الأنعام ؛ ٩٣) كذا في فتح القريب والله يهدي كل مريب.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٨٥