واعلم أن من توغل في بحر التوحيد بحيث لا يرى في الوجود إلا الله لم يلتجىء إلا إلى الله فالفرار ليس إلا إليه على كل حال وأما المظاهر أو المحال فليست إلا أسباباً.
وفي "المثنوي" :
٥٢٧
كره سايه عكس شخص است اي سر
هي از سايه نتانى خوردبر
هين زسايه شخص را مى كن طلب
درمسبب روكذر كن از سبب
﴿ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ﴾ أي : وفقهم للتوبة ﴿لِيَتُوبُوا﴾ ليرجعوا عن المعصية.
واعلم أن ههنا أمور ثلاثة : التوفيق للتوبة، وهو ما دل عليه قوله ثم ﴿تَّابَ﴾، ونفس التوبة وهو ما دل عليه قوله :﴿لِيَتُوبُوا﴾، وقبول الله تعالى إياها وهو ما دل عليه قوله :﴿وَعَلَى الثَّلَـاثَةِ﴾ وإنما عطف الأمر الأول على الثالث بكلمة ثم لكونه أصل الجميع مقدماً على الأمر الثالث بمرتبتين فتكون كلمة ثم للتراخي الرتبي ويجوز أن يكون المعنى ثم تاب عليهم أي أنزل قبول توبتهم ليتوبوا أي ليصيروا من جملة التوابين ويعدوا منهم فتكون كلمة ثم على أصل معناها لأن إنزال القبول متفرع على نفس القبول المذكور بقوله وعلى الثلاثة ﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ أي : البالغ في قبول التوبة لمن تاب وإن عاد في اليوم مائة مرة المتفضل عليهم بفنون الآلاء مع استحقاقهم لأفانين العقاب.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٢١
كر لطف تويارى ننمايد زنخست
هم توبه شكسته است وهم يمان سست
ون توبه باميد ذيرفتن تست
تا تو نذ يرى نشود توبه درست
روي أن ناساً من المؤمنين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم منهم من بدا له وكره مكانه فلحق به عليه السلام.
عن الحسن أنه قال بلغني أنه كان لأحدهم حائط كان خيراً من مائة ألف درهم فقال يا حائطاه ما خلفني إلا ظلك وانتظار ثمارك اذهب فأنت في سبيل الله ولم يكن لآخر إلا أهله فقال : يا أهلاه ما بطأني ولا خلفني إلا الضن بك فلا جرم والله إني لأكابدنّ المفاوز حتى ألحق برسول الله صلى الله عليه وسلّم فركب ولحق ولم يكن لآخر إلا نفسه لا أهل ولا مال فقال يا نفسي ما خلفني إلا حب الحياة لك والله لأكابدنّ الشدائد حتى ألحق برسول الله صلى الله عليه وسلّم فتأبط زاده ولحق به عليه السلام.
وعن أبي ذر الغفاري أبعيره أبطأه فحمل متاعه على ظهره واتبع أثر رسول الله صلى الله عليه وسلّم ماشياً.
راه نزديك وبما ندم سخت دير
سير كشتم زين سوارى سير سير
فقال صلى الله عليه وسلّم لما رأى سواده :"كن أبا ذر" فقال الناس هو ذاك فقال عليه السلام :"رحم الله أبا ذر يمشي وحده ويموت وحده ويبعث وحده" ومنهم من بقي ولم يلحق به عليه السلام وهم الثلاثة وكان كعب شهد بيعة العقبة وهلال ومرارة شهدا بدراً قال كعب لما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلّم جئته وسلمت عليه فرد عليّ كالمغضب بعد ما ذكرني وقال :"يا ليت شعري ما خلف كعباً" فقيل له ما خلفه إلا حسن برديه والنظر في عطفيه قال :"ما أعلم إلا فضلاً وإسلاماً" وقال :"وما خلفك عني ألم تكن قد ابتعت ظهرك" فقلت ما خلفني عنك عذر وإنما تخلفت بمجرد الكسل وقلة الاهتمام فقال عليه السلام :"قم عني حتى يقضي الله فيك" وكذا قال لصاحبيه ونهى عن كلامهم فاجتنبهم الناس ولم يكلمهم أحد من قريب ولا بعيد فأما الرجلان فمكثا في بيوتهما يبكيان وأما كعب فكان يحضر الصلاة مع المسلمين ويطوف في الأسواق فلا يكلمه أحد منهم قال كعب وبينما أنا أمشي بسوق المدينة إذا نبطي من أنباط الشأم ممن قدم
٥٢٨
بالطعام يبيعه بالمدينة يقول من يدلني على كعب بن مالك فطفق أي جعل الناس يشيرون له حتى إذا جاءني دفع إليّ كتاباً من ملك غسان إليّ وهو الحارث بن أبي شمر وكان الكتاب ملفوفاً في قطعة من الحرير فإذا فيه أما بعد فإنه قد بلغني أن صاحبك قد جفاك ولم يجعلك الله بدار هوان ولا بضيعة ذل فالحق بنا نواسك فقلت لما قرأته وهذا أيضاً من البلاء فتيممت أي قصدت به التنور فسجرته به أي ألقيته فيه والأنباط قوم يسكنون البطائح بين العراقين قال حتى إذا مضت أربعون ليلة جاءني رسول من رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم يأمرك أن تعتزل امرأتك فقلت أطلقها أم ماذا قال : لا بل اعتزلها ولا تقربها وأرسل إلى صاحبي وهما هلال ومرارة بمثل ذلك فقلت لامرأتي الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر فجاءت امرأة هلال رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقالت : يا رسول الله إن هلالاً شيخ ضائع ليس له خادم فهل تكره أن أخدمه فقال عليه السلام :"لا ولكن لا يقربك" وقالت والله إنه ما به حركة إلى شيء والله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا فمضى بعد ذلك عشر ليالي حتى كملت خمسون ليلة من حين النهي عن الكلام قال كعب فلما كان صلاة الفجر صبح تلك الليلة سمعت صوتاً من ذروة جبل سلع يقول بأعلى صوته يا كعب بن مالك أبشر :
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٢١
أبشروا يا قوم إذ جاء الفرج
افرحوا يا قوم قد زال الحرج