واعلم أنه كما يزداد الإيمان بالسكينة فكذلك يزداد اليقين على اليقين باستماع قصص الأنبياء والأمم السالفة كما قيل حكايات الصالحين جند من جنود الله تعالى، وهذا لمن يثبت الله به قلبه لا لمن يزداد شكه على الشك وكفره على الكفر كأبي جهل ونحوه لأن الله تعالى أودع في كل شيء لطفه وقهره فمن فتح عليه باب لطفه أغلق عليه باب قهره ومن فتح عليه باب قهره، أغلق عليه باب لطفه قال في "المثنوى" :
ما هيانرا بحر نكذارد برون
خاكيانرا بحر نكذارد درون
اصل ماهى زاب وحيوان ازكاست
حيله وتدبير اينجا باطلست
قفل رفتست وكشاينده خدا
دست در تسليم زن اندر رضا
ومن فتح الله عليه باب لطفه جاءه الحق من هذا الباب، كما قال الله تعالى :﴿وَجَآءَكَ فِى هَاذِهِ الْحَقُّ﴾ أي : أنك لست بقادر أن تجيء في هذه بالحق لأن أبواب اللطف والقهر مغلوقة والمفتاح بيد الفتاح لا يقدر غير المفتاح أن يفتحه، فإذا هو الذي يفتح باب لطفه في كل شيء على العبد ويجيء بكرمه فيه إليه بلا كيف ولا أين.
وموعظة وذكرى للمؤمنين ليطلبوا الحق من باب لطفه في كل شيء ولا يطلبوا من باب قهره.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٢٠٤
اطلبوا الأرزاق من أسبابها
ادخلوا الأبيات من أبوابها
٢٠٤
وقل للذين لا يؤمنون بطلب الحق ووجدانه اعملوا على مكانتكم في طلب المقاصد من باب قهر الحق تعالى.
إنا عاملون في طلب الحق من باب لطفه وانتظروا قهر الحق من باب قهره إنا منتظرون وجدان الحق من باب لطفه وقد ثبت عند أهل التحقيق أن الوجود العيني تابع لعلم الله تعالى وهو تابع للمعلوم الذي هو عين ثابتة لكل فرد من أفراد الإنسان، وهم قد سألوا بلسان الاستعداد في تلك المرتبة، أي : حين كونهم أعياناً ثابتة كل مالهم وعليهم فسلوكهم في هذه النشأة إلى طريق الأعمال القهرية ودقهم باب الجلال الإلهي إنما هو من نتائج استعداداتهم ومقتضيات أسئلتهم السابقة، وقس عليه أهل اللطف والجمال، وكما أن الله تعالى نصر أنبيائه كذلك، ينصر أولياءه وصالح المؤمنين، ويفتح عليهم أبواب لطفه وكرمه، ويؤيدهم ويثبتهم ويحفظهم من تزلزل الأقدام بحسب مراتبهم، ويدفع عن قلوبهم الألم وإنما الألم، من فقدان العيان يحكى أن شاباً ضرب تسعة وتسعين سوطاً فما صاح ولا استغاث إلا في واحدة بعدها فتبعه الشبلي رحمه الله فسأله عن أمره، فقال : إن العين التي ضربت من أجلها كانت تنظر إليّ في التسعة والتسعين وفي الواحدة حجبت عني.
وفي المثنوى :
هركجا باشد شه مارا بساط
هست صحرا اكر بود سم الخياط
هركجا يوسف رخى باشد وماه
جنتست آن كره باشد قعر ام
فالكلام إنما هو في كون المرء مع الحق وشهوده في كل وقت.
ولله اللام للاختصاص غيب السموات والأرض الغيب في الأصل مصدر وإضافة المصدر من صيغ العموم والإضافة بمعنى في أي يختص به علم ما غاب فيهما عن العباد وخفي عليهم علمه فكيف يخفى عليه أعمالكم وإليه تعالى وحده يرجع الأمر كله بضم الياء وفتح الجيم بمعنى يرد وبفتح الياء وكسر الجيم بمعنى يعود عواقب الأمور كلها يوم القيامة فيرجع أمرك يا محمد وأمر الكفار إليه فينتقم لك منهم فاعبده أي أطعه واستقم على التوحيد وتوكل عليه فوض إليه جميع أمورك فإنه كافيك وعاصمك من شرهم فعليك تبليغ ما أوحينا إليك بقلب فسيح غير مبال بعدواتهم وعتوهم وسفههم وفي تأخير الأمر بالتوكل عن الأمر بالعبادة إشعار بأنه لا ينفع بدونها وما ربك بغافل عما تعملون وكل عمل تعمله أنت وهم أي الكفار فالله تعالى عالم به غير غافل عنه لأن الغفلة والسهو لا يجوزان على من لا يخفى عليه شيء في السموات والأرض فيجازي كلا منك ومنهم بموجب الاستحقاق.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٢٠٤
وعن كعب الأحبارأن فاتحة التوراة سورة الأنعام وخاتمتها هذه الآية وهي : ولله غيب السموات والأرض الخ.
اعلم أن علم الغيوب بالذات مختص بالله تعالى وأما أخبار الأنبياء والأولياء صلوات الله عليهم أجمعين فبواسطة الوحي والإلهام وتعليم الله تعالى.
ومن هذا القبيل إخباره عليه السلام عن حال العشرة المبشرة.
وكذا عن حال بعض الناس.
وعن محمد بن كعب أنه قال : قال رسول الله : إن أول من يدخل من هذا الباب رجل من أهل الجنة فدخل عبد الله بن سلام فقام إليه الناس من أصحاب رسول الله فأخبروه بذلك قالوا : لو أخبرتنا بأوثق عمل ترجو به فقال : إني ضعيف وإن أوثق ما أرجو به سلامة الصدر وترك ما لا يعني.
وكذا إخباره عليه السلام
٢٠٥
عن أشراط الساعة وما يظهر في آخر الزمان من غلبة البدع والهوى وإماتة الصلاة وأتباع الشهوات.
وعن سيد الطائفة جنيد البغدادي رحمه الله قال لي خالي سري السقطي : تكلم على الناس وكنت اتهم نفسي في استحقاق ذلك ورأيت النبي عليه السلام وكان ليلة الجمعة فقال : تكلم على الناس، فانتبهت وأتيت بابه العامي فقال : لم تصدقنا حتى قيل لك : فقعدت من غد للناس أي بطريق العظة والتذكير فقعد علي غلام نصراني متنكراً وقال : أيها الشيخ ما معنى قوله عليه السلام : اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله قال فاطرقت رأسي ورفعت فقلت : أسلم فقد حان وقت إسلامك فأسلم الغلام، فمثل هذا العلم والوقوف على أحوال الناس لا يحصل إلا بإخبار الله تعالى وإلا فكل ولي متحير في أمره وأمر غيره كما قال المولى الجامي :
اي دل توكه آن فضولي وبو العجبي
از من ه نشان عافيت مي طلبي
سر كشته بود خواه ولى خواه نبي
در وادي ما أدري ما يفعل بي
ثم إن التوكل عبارة عن الاعتصام به تعالى في جميع الأمور، ومحله القلب وحركة الظاهر لا تنافي توكل القلب بعد ما تحقق عند العبد أن التقدير من قبل الله تعالى، فإن تعسر شيء فبتقديره فالواجب على كافة العباد أن يعبدوا الله تعالى ويعتمدوا عليه كل الاعتماد لا على الجاه والعقل والأموال والأولاد فإن الله تعالى خالق كل مخلوق ورازق كل مرزوق وفي الحديث : ما من زرع على الأرض ولا ثمر على الأشجار إلا وعليه مكتوب بسم الله الرحمن الرحيم هذا رزق فلان ابن فلان وفي الحديث : خلق الله الأرزاق قبل الأجساد بألف عام فبسطها بين السماء والأرض فضربتها الرياح فوقعت في مشارق الأرض ومغاربها، فمنهم من وقع رزقه في ألف موضع، ومنهم من وقع في مائة، ومنهم من وقع على باب داره يغدو ويروح حتى يأتيه.
قال المولى الجامي قدس سره :
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٢٠٤
حرص ه ورزى كه نبودت اوسود
هي دوشش كرد دوهشت تونه
رنج طلب راهمه برخود مكير
يطلبك الرزق كما تطلبه
وأفضل العبادات في مقام التوكل هو التوكل، وفي مقام الرضى هو الرضى، وفي مقام الفناء هو الفناء، وعلى هذا، ثم إن العبادة وإن كثرت أنواعها، ولكن العبادة في الحقيقة ترك العادات ومخالفة النفس بالمجاهدات، والانقطاع عما سوى الله تعالى حتى يترقى العبد من مقام العبادة إلى مقام العبودية، ولا يحصل ذلك إلا بكمال التوحيد وكمال التوحيد لا يحصل إلا بالمداومة للعبادات والملازمة إلى ذكر الله تعالى في جميع الحالات.
يا رب ز دوكون بي نيازم كردان
واز افسر فقر سر فرزم كردان
درراه طلب محرم رازم كردان
زان ره كه نه سوى تست بازم كردان
والله ولى التوفيق وإليه تعود العواقب على التحقيق.
٢٠٦
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٢٠٤