﴿أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ﴾ في البحر بعد خروجكم إلى البر وسلامتكم ﴿تَارَةً﴾ مرة ﴿أُخْرَى﴾ بخلق دواعي تلجئكم إلى أن ترجعوا فتركبوه فإسناد الإعادة إليه تعالى مع أن العود إليه باختيارهم باعتبار خلق تلك الدواعي الملجئة.
وفيه إيماء إلى كمال شدة هول ما لاقوه في التارة الأولى بحيث لولا الإعادة لما عادوا وأوثرت كلمة في على كلمة إلى المنبئة عن مجرد الانتهاء للدلالة على استقرارهم فيه ﴿فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ﴾ وأنتم في البحر ﴿قَاصِفًا مِّنَ الرِّيحِ﴾ وهي التي لا تمر بشيء إلا قصفته أي : كسرته وجعلته كالرميم وذكَّر قاصفاً لأنه ليس بإزائه ذكر فجرى مجرى حائض كما في "الكواشي".
﴿فَيُغْرِقَكُم﴾ بعد كسر فلككم كما ينبىء عنه عنوان القصف ﴿بِمَا كَفَرْتُمْ﴾ بسبب إشراككم وكفرانكم لنعمة الإنجاء ﴿ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ﴾ (بآن غرق كردن) ﴿تَبِيعًا﴾ مطالباً يتبعنا بانتصار أو صرف.
قال في "القاموس" : التبيع كامير التابع ومنه قوله تعالى :﴿ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِه تَبِيعًا﴾ أي : ثائراً ولا طالباً انتهى.
وفي الآيات إشارات :
منها : أن الشريعة
١٨٣
كالفلك في بحر الحقيقة إذ لو لم يكن هذا الفلك ما تيسر لأحد العبور على بحر الحقيقة والمقصود منه جذبة العناية إذ هي ليست بمكتسبة للخلق بل من قبيل الفضل فعلى من يريد النيل إلى هذه الجذبة أن يسير بقدمي العلم والعمل، قال في "المثنوي" :
رهروراه طريقت اين بود
كاو بأحكام شريعت مى رود
ومنها : أن الإعراض عن الحق بالكفران يؤدي إلى الخسران.
قال الجنيد : لو أقبل صديق على الله ألف سنة ثم أعرض عنه لحظة فإن ما فاته أكثر مما ناله.
قال أوحد المشايخ في وقته أبو عبد الله الشيرازي : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم في المنام وهو يقول : من عرف طريقاً إلى الله فسلكه ثم رجع عنه عذبه الله تعالى بعذاب لم يعذبه به أحداً من العالمين.
درين ره دائماً ثابت قدم باش
بروازرهزن غم بي الم باش
زبازار توجه رو مكردان
همه سودى كه خواهى اندرين دان
جزء : ٥ رقم الصفحة : ١٨٢
ومنها : أن جميع الجوانب والجهات متساوية بالنسبة إلى قدرته تعالى وقهره سلطانه لا ملجأ ولا منجي منه إلا إليه فعلى العبد أن يستوي خوفه من الله في جميع الجوانب حيث كان فإن الله كان متحلياً بجماله وجلاله في جميع الأينيات ولذا كان أهل اليقظة والحضور لا يفرقون بين أين وأين وبين حال وحال لمشاهدتهم إحاطة الله تعالى فإن الله تعالى لو شاء لأهلك من حيث لا يخطر بالبال ألا ترى أنه أهلك النمرود بالبعوض فكان البعوض بالنسبة إلى قدرته كالأسد ونحوه في الإهلاك وربما رأيت من غص بلقمة فمات فانظر في أن تلك اللقمة مع أنها من أسباب الحياة كانت من مبادى الممات فأماته الله من حيث يدري حياته فيه ولو أمعنت النظر لوجدت شؤون الله تعالى في هذا العالم عجيبة :
هركرا خواهد خدا آرد بنك
نيست كس را قوت بازوى جنك
جزء : ٥ رقم الصفحة : ١٨٢
قال الله تعالى :﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءَادَمَ﴾ التكريم والإكرام بمعنى والاسم منه الكرامة والمعنى :(بالفارسية وهر آيينه كرامى كرديم فرزندان آدم را).
قال المولى أبو السعود : بني آدم قاطبة تكريماً شاملاً لبرهم وفاجرهم.
وفي "التأويلات النجمية" : خصصناهم بكرامة تخرجهم من حيز الاشتراك وهي على ضربين جسدانية وروحانية فالكرامة الجسدانية عامة يستوي فيها المؤمن والكافر وهي تخمير طينته بيده أربعين صباحاً وتصويره في الرحم بنفسه وأنه تعالى صوره فأحسن صورته وسواه فعدله في أي : صورة ما شاء ركبه ومشاه سوياً على صراط مستقيم مستقيم القامة أخذاً بيديه آكلاً بأصابعه مزيناً باللحى والذوائب صانعاً بأنواع الحرف والكرامة الروحانية على ضربين خاصة وعامة فالعامة أيضاً يستوي فيها المؤمن والكافر وهي أن كرمه بنفخه فيه من روحه وعلمه الأسماء كلها وكلمه قبل أن خلقه بقوله : ألست بربكم فاسمعه خطابه وأنطقه بجوابه بقوله : قالوا : بلى وعاهده على العبودية وأولده على الفطرة وأرسل إليه الرسل وأنزل عليه الكتب ودعاه إلى الحضرة ووعده الجنة وخوفه النار وأظهر له الآيات والدلالات والمعجزات والكرامة الروحانية الخاصة ما كرم به أنبياءه ورسله وأولياءه وعباده المؤمنين من النبوة والرسالة والولاية والإيمان والإسلام والهداية إلى الصراط المستقيم
١٨٤


الصفحة التالية
Icon