﴿قُلْ كَفَى بِاللَّهِ﴾ وحده ﴿شَهِيدًا﴾ على أني بلغت ما أرسلت به إليكم وأنكم كذبتم وعاندتم ﴿بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ﴾ لم يقل بيننا تحقيقاً للمفارقة ﴿إِنَّه كَانَ بِعِبَادِهِ﴾ من الرسل والمرسل إليهم ﴿خَبِيرَا بَصِيرًا﴾ محيطاً بظواهر أحوالهم وبواطنها فيجازيهم على ذلك.
وفيه تسلية له عليه السلام وتهديد للكافرين.
وفي الآية إشارة إلى أن الجهلاء يستبعدون إرسال الإنسان الكامل من أبناء جنسهم ويحسبون أن الملائكة أعلى درجة منه مع ما جعله الله مسجوداً للملائكة وأودع فيه من سر الخلافة ولو كان الملك مستأهلاً للخلافة في الأرض لكان الله نزل رسولاً من الملائكة وهو شاهد بأنه مستعد للرسالة والخلافة والملك.
﴿وَمَن يَهْدِ اللَّهُ﴾ ابتداء كلام ليس بداخل تحت الأمر أي : يخلق فيه الاهتداء إلى الحق.
قال الكاشفي :(وهر كراراه نمايد خداى تعالى يعني حكم كندبهدايت او وتوفيق) ﴿فَهُوَ الْمُهْتَدِ﴾ لا غير ﴿وَمَن يُضْلِلِ﴾ أي : يخلق فيه الضلال بسوء اختياره.
قال الكاشفي (وهركرا كمراه سازد يعني حكم فرمايد بضلالت او وفرو كذا رد اورا) ﴿فَلَن تَجِدَ لَهُمْ﴾ أشار بالتوحيد في جانب الهداية إلى وحدة طريق الحق وقلة سالكيه وبالجمع في جانب الضلال إلى تعدد سبل الباطل وكثرة أهله ﴿أَوْلِيَآءَ﴾ كائنين ﴿مِن دُونِهِ﴾ تعالى فهو في موقع الصفة ويجوز أن يكون حالاً كما في "بحر العلوم" أي : أنصاراً يهدونهم إلى طريق الحق ويدفعون عنهم الضلالة وفي الحديث :"إنما أنا رسول وليس إلي من الهداية شيء ولو كانت الهداية إليّ لآمن كل من في الأرض وإنما إبليس مزين وليس له من الضلالة شيء ولو كانت الضلالة إليه لأضل كل من في الأرض ولكن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء"، قال الحافظ :
٢٠٥
مكن بشم حقارت نكاه برمن مست
كه نيست معصيت وزهد بى مشيت او
﴿وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ﴾ كائنين ﴿عَلَى وُجُوهِهِمْ﴾ سحباً أو مشياً فإن الذي أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم ﴿عُمْيًا﴾ حال من ضمير وجوههم وهو جمع أعمى ﴿وَبُكْمًا﴾ جمع أبكم وهو الأخرس ﴿وَصُمًّا﴾ جمع أصم من الصمم محركة وهو انسداد الأذن وثقل السمع.
إن قيل ما وجه الجمع بين هذه الآية وبين قوله تعالى :﴿سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا﴾ (الفرقان : ١٣) وقوله :﴿وَرَءَا الْمُجْرِمُونَ النَّارَ﴾ وقوله :﴿تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا﴾، قلت : قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : معنى الآية لا يرون ما يسرّهم ولا ينطقون بما يقبل منهم ولا يستمعون ما يلذ مسامعهم لما قد كانوا في الدنيا لا يستبصرون بالآيات والعبر ولا ينطقون بالحق ولا يستمعون.
وقال مقاتل : هذا إذا قيل لهم اخسأوا فيها ولا تكلمون فيصيرون بأجمعهم صماً بكماً عمياً نعوذ بالله من سخطه.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٢٠١
وفي "التأويلات النجمية" :﴿وَنَحْشُرُهُمْ﴾ إلخ لأنهم كانوا يعيشون في الدنيا مكبين ﴿عَلَى وُجُوهِهِمْ﴾ في طلب السفليات في الدنيا وزخارفها وشهواتها ﴿عُمْيًا﴾ عن رؤية الحق ﴿وَبُكْمًا﴾ من قول الحق ﴿وَصُمًّا﴾ عن استماع الحق وذلك لعدم إصابة النور المرشوش على الأرواح ﴿وَمَن كَانَ فِى هَـاذِه أَعْمَى﴾ (الإسراء : ٧٢) الآية وقال صلى الله عليه وسلّم "يموت الإنسان على ما عاش ويحشر على ما مات عليه" منزلهم ومسكنهم والمأوى كل مكان يأوي إليه شيء ليلاً كان أو نهاراً ﴿جَهَنَّمَ﴾ خبر مأواهم والجملة استئناف ﴿كُلَّمَا خَبَتْ﴾ يقال : خبت النار والحرب والحدة خبواً وخبّوا سكنت وطفئت كما في "القاموس" ﴿زِدْنَـاهُمْ سَعِيرًا﴾ (بيفزاييم براى ايشان آتش سوزان يابر افروزيم آتش را) أي : كلما سكن لهبها بأن أكلت جلودهم ولحومهم ولم يبق فيهم ما تتعلق به النار زدناهم توقداً بأن بدلناهم جلوداً غيرها فعادت ملتهبة ومسعرة.
فإن قلت قوله تعالى :﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَـاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا﴾ (النساء : ٥٦) يدل على أن النار لا تتجاوز في تعذيبهم عن حد الإنضاج إلى حد الإحراق والإفناء.
قلت : النضج مجاز عن مطلب تأثير النار ثم ما ذكر من التجديد بعدا لإفناء عقوبة لهم على إنكارهم الإعادة بعد الفناء بتكريرها مرة بعد أخرى ليروها بعد أخرى فيروها عياناً حيث لم يعلموها برهاناً كما يفصح عنه قوله :
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٢٠١
﴿ذَالِكَ﴾ مبتدأ خبر قوله :﴿جَزَآؤُهُم بِأَنَّهُمْ﴾ بسبب أنهم ﴿كَفَرُوا بآياتنا﴾ العقلية والنقلية الدالة على صحة الإعادة دلالة واضحة.
وفي "التأويلات" : كانوا في جهنم الحرص والشهوات كلما سكنت نار شهوة باستيفاء حظها زادوا سعيرها باشتغال طلب شهوة أخرى ولو كانوا مؤمنين بالحشر والنشر ما أكبوا على جهنم الحرص على الدنيا وشهواتها وما أعرضوا عن الآيات البينات التي جاء بها الأنبياء عليهم السلام، وفي "المثنوي" :
كوزه شم حريصان برنشد
تا صدف قانع نشد ردر نشد


الصفحة التالية
Icon