﴿فَضَرَبْنَا عَلَى ءَاذَانِهِمْ﴾ أي : حجاباً يمنع سماعها أي : أنمناهم على طريقة التمثيل المبني على تشبيه الإنامة الثقيلة المانعة عن وصول الأصوات إلى الآذان بضرب الحجاب عليها وتخصيص الآذان بالذكر مع اشتراك سائر المشاعر لها في الحجب عن الشعور عند النوم لما أنها المحتاجة إلى الحجب عادة إذ هي الطريقة للتيقظ غالباً لا سيما عند انفراد النائم واعتزاله عن الخلق والفاء في ضربنا كما في قوله فاستجبنا له بعد قوله إذ نادى فإن الضرب المذكور وما ترتب عليه من التقليب ذات اليمين وذات الشمال وغير ذلك ايتاء رحمة لدنية خافية عن أبصار المتمسكين بالأسباب العادية استجابة لدعواتهم ﴿فِى الْكَهْفِ﴾ ظرف مكان لضربنا ﴿سِنِينَ﴾ ظرف زمان له ﴿عَدَدًا﴾ أي : ذوات عدد هي ثلاثمائة وتسع سنين كما سيأتي ووصف السنين بذلك إما للتكثير وهو الأنسب بإظهار كمال القدرة أو للتقليل وهو الأليق بمقام إنكار كون القصة عجباً من بين سائر الآيات العجيبة فإن مدة لبثهم كبعض يوم عنده تعالى.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٢١٨
﴿ثُمَّ بَعَثْنَـاهُمْ﴾ أي : أيقظناهم من تلك النومة الثقيلة الشبيهة بالموت وفيه دليل على أن النوم أخو الموت في اللوازم من البعث وتعطيل الحياة والالتحاق بالجمادات ﴿لِنَعْلَمَ﴾ العلم هنا مجاز عن الاختبار بطريق إطلاق اسم المسبب على السبب وليس من ضرورة الاختبار صدور الفعل المختبر به قطعاً بل قد يكون لإظهار عجزه عنه على سنن التكاليف التعجيزية كقوله تعالى :﴿فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ﴾ (البقرة : ٥٨) وهو المراد هنا فالمعنى بعثناهم لنعاملهم معاملة من يختبرهم ﴿أَيُّ الْحِزْبَيْنِ﴾ أي : الفريقين المختلفين في مدة لبثهم بالتقدير والتفويض كما سيأتي.
ـ وروي ـ عن ابن عباس رضي الله عنهما أن أحد الحزبين الفتية والآخر الملوك الذين تداولوا المدينة ملكاً بعد ملك وذلك لأن اللام للعهد ولا عهد لغيرهم وأي مبتدأ خبره قوله :﴿أَحْصَى﴾ فعل ماض أي : ضبط ﴿لِمَا لَبِثُوا﴾ أي : للبثهم فما مصدرية ﴿أَمَدًا﴾ يقال ما أمدك أي : منتهى عمرك أي : غايته فيظهر لهم عجزهم ويفوضوا ذلك إلى العليم الخبير ويتعرفوا حالهم وما صنع الله بهم من حفظ أبدانهم وأديانهم فيزدادوا يقيناً بكمال قدرته وعلمه ويستبصروا به أمر البعث ويكون ذلك لطفاً لمؤمني زمانهم وآية بينة لكفارهم.
والأمد بمعنى المدى كالغاية في قولهم ابتداء الغاية على طريق التجوز بغاية الشيء عنه فالمراد بالمدى المدة كما أن المراد بالغاية المسافة وهو مفعول لأحصى والجار والمجرور حال منه قدمت عليه لكونه نكرة فأحصى فعل ماض هنا وهو الصحيح لا أفعل تفضيل لأن المقصود بالاختيار إظهار عجز الكل عن الإحصاء رأساً لا إظهار أفضل الحزبين وتمييزه عن الأدنى مع تحقق أصل الإحصاء فيهما.
قال في "التأويلات النجمية" :﴿أَمْ حَسِبْتَ﴾ إشارة إلى النبي صلى الله عليه وسلّم أي : إنك إن حسبت ﴿أَنْ﴾ أحوال ﴿أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَـابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ﴾ أي : من آيات إحساننا مع العبد ﴿عَجَبًا﴾ فإن في أمتك من هو أعجب حالاً منهم وذلك أن فيهم أصحاب الخلوات الذين كهفهم الذي يأوون إليه بيت الخلوة ورقيمهم قلوبهم المرقومة برقم المحبة فهم محبي ومحبوبي وألواح قلوبهم مرقومة بالعلوم اللدنية، قال الحافظ :
٢٢٠
خاطرت كي رقم قيض ذيرد هيهات
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٢١٨
مكر ازنقش را كنده ورق ساده كنى
وإن كان أصحاب الكهف آووا إلى الكهف خوفاً من لقاء دقيانوس وفراراً فإنهم آووا إلى كهف الخلوة شوقاً إلى لقائي وفراراً إلي، قال الحافظ :
شكر كمال حلاوت س از رياضت يافت
نخست درشكن تنك ازان مكان كيرد
وإن كان مرادهم من قولهم ﴿رَبَّنَآ ءَاتِنَا﴾ الآية النجاة من شر دقيانوس والخروج من الغار بالسلامة فمراد هؤلاء القوم النجاة من شر نفوسهم والخروج من ظلمات غار الوجود للوصول إلى أنوال جمالي وجلالي، قال الحافظ :
مددى كر براغى نكند آتش طور
اره تيره شب وادى ايمن ه كنم
وبقوله :﴿فَضَرَبْنَا﴾ الآية يشير إلى سد آذان ظاهر أصحاب الخلوة وآذان باطنهم لئلا يقرع مسامعهم كلام الخلق فتنقش ألواح قلوبهم به وكذلك ينعزل جميع حواسهم عن نقش قلوبهم ثم إنهم يمحون النقوش السابقة عن القلوب بملازمة استعمال كلمة الطلاسة وهي كلمة لا إله إلا الله حتى تصفو قلوبهم بنفي لا إله عما سوى الله وبإثبات إلا الله تتنور قلوبهم بنور الله وتنتقش بنور العلوم اللدنية إلى أن يتجلى تبارك وتعالى لقلوبهم بذاته وجميع صفاته فيفنيهم الله عنهم ويبقيهم به وهو سر قوله :﴿ثُمَّ بَعَثْنَـاهُمْ﴾ أي : أحييناهم بنا ﴿لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ﴾ أي : حزب أصحاب الكهف وحزب أصحاب الخلوة أحصى أي : أخطأ وأصوب لما لبثوا في كهفهم وبيت خلوتهم أمداً غاية لبثهم.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٢١٨


الصفحة التالية
Icon