﴿قَالَ﴾ موسى عليه السلام :﴿سَتَجِدُنِى﴾ (زود باشدكه يابى مرا) ﴿إِن شَآءَ اللَّهُ صَابِرًا﴾ معك غير معترض عليك والصبر الحبس يقال صبرت نفسي على كذا أي : حبستها وتعليق الوعد بالمشيئة إما طلباً لتوفيقه في الصبر ومعونته أو تيمناً به أو علماً منه بشدة الأمر وصعوبته فإن الصبر من مثله عند مشاهدة الفساد شديد جداً لا يكون إلا بتأييد الله تعالى.
وقيل : إنما استثنى لأنه لم يكن على ثقة فيما التزم من الصبر وهذه عادة الصالحين.
ويقال إن أمزجة جميع الأنبياء البلغم إلا موسى فإن مزاجه كان المرة.
فإن قلت ما معنى قول موسى للخضر :﴿سَتَجِدُنِى﴾ الآية ولم يصبر وقول إسماعيل عليه السلام :﴿سَتَجِدُنِى إِن شَآءَ اللَّهُ مِنَ الصَّـابِرِينَ﴾ فصبر.
قال بعض العلماء لأن موسى جاء صحبة الخضر بصورة التعلم والمتعلم لا يصبر إذا رأى شيئاً حتى يفهمه بل يعترض على أستاذه كما هو دأب المتعلمين وإسماعيل لم يكن كذلك بل كان في معرض التسليم والتفويض إلى الله تعالى وكلاهما في مقامهما واقفان.
وقيل : كان في مقام الغيرة والحدة والذبيح في مقام الحكم والصبر.
قال بعض العارفين قال الذبيح من الصابرين أدخل نفسه في عداد الصابرين فدخل وموسى عليه السلام تفرد بنفسه وقال صابراً فخرج والتفويض من التفرد أسلم وأوفق لتحصيل المقام ووصول المرام.
﴿وَلا أَعْصِى لَكَ أَمْرًا﴾ عطف على صابراً أي : ستجدني صابراً وغير عاص أي : لا أخالفك في شيء ولا أترك أمرك فيما أمرتني به وفي عدم هذا الوجدان من المبالغة ما ليس في الوعد بنفس الصبر وترك العصيان.
وفي "التأويلات النجمية" : ومن الآداب أن لا يكون معترضاً على أفعال الشيخ وأقواله وأحواله وجميع حركاته وسكناته معتقداً له في جميع حالاته وإن شاهد منه معاملة غير مرضية بنظر عقله وشرعه فلا ينكره بها ولا يسيء الظن فيه بل يحسن فيه الظن ويعتقد أنه مصيب في معاملاته مجتهد في آرائه وإنما الخطأ من قصور نظري وسخافة عقلي وقلة علمي.
﴿قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِى﴾ صحبتني لأخذ العلم وهو أذن له في الاتباع بعد اللتيا والتي والفاء لتفريع الشرطية على ما مر من التزامه للصبر والطاعة ﴿فَلا تَسْـاَلْنِي عَن شَىءٍ﴾ تشاهده من أفعالي وتنكره مني في نفسك أي : لا تفاتحني بالسؤال عن حكمته فضلاً عن المناقشة والاعتراض ﴿حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا﴾ حتى
٢٧٦
ابتدىء ببيانه.
وفيه إيذان بأن كل ما صدر عنه فله حكمة وغاية حميدة البتة وهذا من آداب المتعلم مع العالم والتابع مع المتبوع.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٢٧٦
قال في "التأويلات النجمية" : ومن الآداب أن يسد على نفسه باب السؤال فلا يسأل الشيخ عن شيء حتى يحدث له منه ذكراً إما بالقال وإما بالحال انتهى.
ـ روي ـ أن لقمان دخل على داود عليه السلام وهو يسرد دروعاً ولم يكن رآها قبل ذلك فتعجب منه فأراد أن يسأله عن ذلك فمنعته الحكمة فأمسك نفسه ولم يسأله فلما فرغ قام داود ولبسها ثم قال نعم الدرع للحرب.
وقيل : كان يتردد إليه سنة وهو يريد أن يسأل ذلك فلم يسأل.
قالت الحكماء إن كان الكلام من فضة فالصمت من ذهب.
وعن بعض الكبار الصمت على قسمين : صمت باللسان عن الحديث بغير الله مع غير الله جملة وصمت بالقلب عن خاطر كوني البتة فمن صمت لسانه ولم يصمت قلبه خف وزره ومن صمت قلبه ولم يصمت لسانه فهو ناطق بلسان الحكمة ومن صمت لسانه وقلبه ظهر له سره وتجلى له ربه ومن لم يصمت لسانه وقلبه كان مسخرة للشيطان.
فعلى العاقل أن يجتهد حتى يسلم قلبه من الانقباض ولسانه من الاعتراض وينسى ما سوى الله تعالى ولا تلعب به الأفكار ويصبر عند مظان الصبر ويستسلم لأمر الله الملك الغفار فإن تعالى في كل شيء حكمة وفي كل تلف عوضاً، وفي "المثنوي" :
لا نسلم واعتراض ازما برفت
ون عوض مى آيداز مفقودزفتونكه بى آتش مرا كرمى رسد
راضيم كر آتش مارا كشد
بى راغى ون دهد اوروشنى
كر راغت شدجه افغان ميكنى
دانه ر مغز باخاك دزم
خلوتى وصحبتي كرد ازكرمخويشتن درخاك كلى محو كرد
تانماندش رنك وبوى سرخ وزرد
از س آن محو قبض اونماند
بر كشاد وبست شد مركب براند
نسأل الله تعالى أن يجعلنا من أهل الخلوة به والصحبة بالأهل والتسليم للأمر.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٢٧٦