فالاسكندر الحقيقي الذي لا يزول ملكه ولا يحيط بما لديه إلا الله تعالى هو من ايد ظاهره بأحكام الطاعات ومعاملات العبودية وباطنه بأنوار المشاهدات وتجليات الربوبية فإنه حينئذٍ تموت النفس الأمارة وتزول يدها العادية القاهرة عن قلعة القلب ويظهر جنود الله التي لا يعلمها إلا هو لكثرتها اللهم اجعلنا من المؤيدين بالأنوار الملكوتية والإمداد اللاهوتية إنك على ما تشاء قدير.
﴿ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا﴾ أي : أخذ طريقاً ثالثاً معترضاً بين المشرق والمغرب آخذاً من الجنوب إلى الشمال.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٢٩٤
﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ﴾ (تاون رسيد) ﴿بَيْنَ السَّدَّيْنِ﴾ بين الجبلين اللذين سد ما بينهما وهما جبلان عاليان في منقطع أرض الترك مما يلي المشرق من ورائهما يأجوج ومأجوج.
والسد بالفتح والضم واحد بمعنى الجبل والحاجز أو بالفتح ما كان من عمل الخلق وبالضم ما كان من خلق الله لأن فعل بمعنى مفعول أي : هو مما فعله الله وخلقه وانتصاب بين على المفعولية لأنه مبلوغ وهو من الظروف التي تستعمل أسماء وظروفاً كما ارتفع في قوله تعالى :﴿لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ﴾ (الأنعام : ٩٤) وانجرّ في قوله :﴿هَـاذَا فِرَاقُ بَيْنِى وَبَيْنِكَ﴾ (الكهف : ٧٨) ﴿وَجَدَ مِن دُونِهِمَا﴾ أمام السدين ومن ورائهما مجاوزاً عنهما.
وقال الكاشفي :(يافت دريش آن دوكوه) وفسره في "تفسير الجلالين" أيضاً بقوله عندهما ﴿قَوْمًا﴾ أمة من
٢٩٦
الناس ﴿لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلا﴾ أي : لا يفهمون كلام أحد ولا يفهم الناس كلامهم لغرابة لغتهم.
وقال الزمخشري :﴿لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ﴾ إلا بجهد ومشقة من إشارة ونحوها كما يفهم البكم وهو الترك.
قال أهل التاريخ أولاد نوح ثلاثة سام وحام ويافث فسام أبو العرب والعجم والروم وحام أبو الحبش والزنج والنوبة ويافث أبو الترك والخزر والصقالبة ويأجوج ومأجوج.
وقال في "أنوار المشارق" أصل الترك بنوا قنطوراً أمة كانت لإبراهيم عليه السلام فولدت له أولاداً فانتشر منهم الترك.
﴿قَالُوا﴾ على لسان ترجمانهم بطريق الشكاية والظاهر أن ذى القرنين كان قد أوتي اللغات ففهم كلامهم.
وفي "التأويلات النجمية" : كيف أخبر عنهم أنهم ﴿لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلا﴾ ثم قال :﴿قَالُوا﴾ الآية قلنا كلمة كاد ليست لوقوع الفعل كقوله تعالى :﴿تَكَادُ السَّمَـاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ﴾ (الشورى : ٥) أي : قاربت الانفطار فلن تنفطر وإذا دخل فيها لا الجحود وما النفي تكون لوقوع الفعل كقوله تعالى :﴿فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ﴾ (البقرة : ٧١) أي : قرب أن لا يذبحوها فذبحوها وكذلك قوله :﴿لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلا﴾ (الكهف : ٩٣) أي : لا يفقهون قولاً يلين به قلب ذي القرنين ليجعل لهم السد ففقهوا بإلهام الحق تعالى حتى قالوا : يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ} اسمان أعجميان بدليل منع الصرف أو عربيان ومنع صرفهما للتعريف والتأنيث لأنهما علمان لقبيلتين من أولاد يافث بن نوح كما سبق أو من احتلام آدم عليه السلام كما ذكر في "عين المعاني" وغيره أن آدم احتلم ذات يوم وامتزجت نطفته بالتراب فهم منها يتصلون بنا من جهة الأب دون الأم.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٢٩٦
وقال في "أنوار المشارق" هذا منكر جداً لا أصل له وكذا قال في "بحر العلوم" : واعلم أن هذا مخالف لقوله عليه السلام :"ما احتلم نبي قط" انتهى.
يقول الفقير : سمعت من فم حضرة شيخي وسندي روح الله روحه أنه قال في أول من ابتلى بالاحتلام أبونا آدم عليه السلام لحكمة خفية كما ابتلى نبينا عليه السلام ببعض السهو لحكمة علية والحديث المذكور مخصوص بمن عداه والمنع عن الكلام فيه إنما هو لرعاية الأدب فافهم جداً ﴿مُفْسِدُونَ فِى الأرْضِ﴾ أي : في أرضنا بالقتل والتخريب وإتلاف الزروع وكانوا يخرجون أيام الربيع فلا يتركون أخضر إلا أكلوه ولا يابساً إلا احتملوه وربما أكلوا الناس إذا لم يجدوا شيئاً من الأنعام ونحوها وكان لا يموت أحد منهم حتى ينظر ألف ذكر من صلبه كلهم قد حمل السلاح ولذا قال ابن عباس رضي الله عنهما بنو آدم عشرهم :
و وزينكان آمده در وجود
مه زرد ورخ سرخ وديده كبود
ندارند جز خواب وخور هي كار
نميرد يكى تا نزايد هزار
وهم أصناف صنف منهم طول الرجل منهم مائة وعشرون ذراعاً وصنف منهم قد هم على شبر واحد طولهم وعرضهم سواء وصنف منهم كبار الآذان يفترش أحدهم أحد أذنيه ويلتحف بالأخرى ولهم من الشعر في أجسادهم ما يواريهم وما يقيهم من الحر والبرد فلا يغزلون ولا ينسجون يعوون عوى الذئاب ويتسافدون كتسافد البهائم يقال سفد الذكر على أنثى نزا لهم مخالب في أيديهم وأضراس كأضراس السباع وأنياب يسمع لها حركة كحركة الجرس في حلوق الإبل لا يمرون بفيل ولا جمل ولا وحش ولا خنزير إلا أكلوه ومن مات منهم
٢٩٧