اعلم أن هذا مذكور على طريق التمثيل لأن الإعادة بالنسبة إلى قوانا أيسر من الإنسان وأما النسبة إلى قدرة الله تعالى فلا سهولة في شيء ولا صعوبة "وأما شتمه إياي فقوله اتخذ الله ولداً" وإنما صار هذا شتماً لأن التولد هو انفصال الجزء عن الكل بحيث ينمو وهذا إنما يكون في المركب وكل مركب محتاج إلى المؤلف أو لأن الحكمة في التولد استحفاظ النوع عند فناء الآباء تعالى الله عما لا يليق.
فإن قلت قوله "اتخذ الله" تكذيب أيضاً لأنه تعالى أخبر أن لا ولد له وقوله "لن يعيدني" شتم أيضاً لأنه نسبة له إلى العجز فلم خص أحدهما بالشتم والآخر بالتكذيب.
قلت : نفي الإعادة نفي صفة كمال واتخاذ الولد إثبات صفة نقصان له والشتم افحش من التكذيب ولذلك نفاه الله عنه بأبلغ الوجوه فقال :"وانا الأحد" أي : المتفرد بصفات الكمال من البقاء والتنزه وغيرهما الواو فيه للحال "الصمد" بمعنى المصمود يعني المقصود إليه في كل الحوايج "الذي لم يلد" هذا نفي للتشبيه والمجانسة "ولم يولد" هذا وصف بالقدم والأولية "ولم يكن له كفواً أحد" هذا تقرير لما فعله.
فإن قلت لا يلزم من نفي الكفو في الماضي نفيه في الحال والاستقبال.
قلت يلزم لأنه إذا لم يكن في الماضي فوجد يكون حادثاً والحادث لا يكون كفواً للقديم كذا في "شرح المشارق" لابن ملك فإذا ثبت أن الألوهية والربوبيةتعالى وأنه لا يجانسه ولا يشاركه شيء من المخلوقات ثبتت العبودية والمربوبية للعبد وأن من شأنه أن لا يعبد شيئاً من الأجسام والأرواح ولا يتقيد بشيء من العلويات والسفليات بل يخص عبادته بالله تعالى ويجرد توحيده عن هواه.
قال علي رضي الله عنه قيل للنبي عليه السلام : هل عبدت وثنا قط قال : لا قيل : هل شربت خمراً قط قال : لا وما زلت أعرف أن الذي هم أي : الكفار عليه كفر وما كنت أدري ما الكتاب ولا الإيمان فهذا من آثار حسن الاستعداد حيث استغنى عن البرهان بقاطع العقل فليتبع العاقل أثر متبوعه المصطفى عليه
٣٥٨
السلام وقد لاح المنار واستبان النور من النار فالنور هو التوحيد والإقرار والنار هو الشرك والإنكار والتوحيد إذا تجلى بحقائقه ظهر التجريد وهو إذا حصل بمعانية ثبت التفريد فالفردانية صفة السر الأعلى وهي حاصلة للعارفين في هذه الدار ولغيرهم يوم القيامة وما في هذه الدار اختياري مقبول وما في الآخرة اضطراري مردود فيا أرباب الشرك أين التوحيد ويا أهل التوحيد أين التجريد ويا أصحاب التجريد أين التفريد ﴿وَكُلُّهُمْ ءَاتِيهِ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ فَرْدًا﴾ وقد قيل : قيامة العارفين دائمة، قال الصائب :
ترك هستى كن كه آسودست از تاراج سيل
هركه يش ازسيل رخت خودبرون از خانه ريخت
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٣٥٧
﴿إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ﴾ جمعوا بين عمل القلب وعمل الجوارح ﴿سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَـانُ وُدًّا﴾ أي : سيحدث لهم في القلوب مودة من غير تعرض منهم لأسبابها من قرابة أو صداقة أو اصطناع معروف أو غير ذلك سوى ما لهم من الإيمان والعمل الصالح والسين إما لأن السورة مكية وكان المؤمنون حينئذٍ ممقوتين بين الكفرة فوعدهم الله ذلك إذا قوي الإسلام وإما أن يكون ذلك يوم القيامة يحببهم الله إلى خلقه بما يظهر من حسناته.
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أن بذر الإيمان إذا وقع في أرض القلب وتربى بماء الأعمال الصالحات ينمو ويتربى إلى أن يثمر فتكون ثمرته محبة الله ومحبة الأنبياء والملائكة والمؤمنين جميعاً كما قال تعالى :﴿تُؤْتِى أُكُلَهَا كُلَّ حِينا بِإِذْنِ رَبِّهَا﴾ (إبراهيم : ٤٥) انتهى.
واعلم أن المحبة الموافقة ثم الميل ثم الود ثم الهوى ثم الوله فالموافقة للطبع والميل للنفس والود للقلب والمحبة للفؤاد وهو باطن القلب والهوى غلبة المحبة والوله زيادة الهوى يقال نور المحبة ثم نار العشق ثم حرارة الشهوة ثم البخار اللطيف ثم النفس الرقيق ثم الهواء الدقيق.
قال رجل لعبد الله بن جعفر : إن فلاناً يقول أنا أحبك فبم اعلم صدقه فقال استخبر قلبك فإن توده فإنه يودك قيل :
وعلى القلوب من القلوب دلائل
بالود قبل تشاهد الأشباح


الصفحة التالية
Icon