كل مكان واسع جامع للماء الكثير والمراد هنا بحر القلزم.
قال في "القاموس" هو بلد بين مصر ومكة قرب جبل الطور وإليه يضاف بحر القلزم لأنه على طرفه أو لأنه يبتلع من ركبه لأن القلزمة الابتلاع ﴿يَبَسًا﴾ صفة لطريقا واليبس المكان الذي كان فيه ماء فذهب.
قال في "الإرشاد" أي : يابساً على أنه مصدر وصف به الفاعل مبالغة، وبالفارسية :(خشك كه دروآب ولاى تبود) ﴿لا تَخَـافُ دَرَكًا﴾ حال مقدرة من المأمور أي : موسى والدرك محركة اسم من الإدراك كالدرك بالسكون.
والمعنى حال كونك آمنا من أن يدرككم العدو ﴿وَلا تَخْشَى﴾ الغرق.
﴿فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ﴾ الفاء فصيحة أي : ففعل ما أمر به من الإسراء بهم وضرب الطريق وسلوكه فتبعهم فرعون ومعه جنوده حتى لحقوهم وقت إشراق الشمس وهو إضاءتها يقال اتبعهم أي : تبعهم وذلك إذا كانوا سبقوك فلحقتهم فالفرق بين تبعه واتبعه أن يقال اتبعه اتباعاً إذ طلب الثاني اللحوق بالأول وتبعه تبعاً إذا مر به ومضى معه.
ـ روي ـ أن موسى خرج بهم أول الليل وكانوا ستمائة وسبعين ألفاً فأخبر فرعون بذلك فاتبعهم بعساكره وكانت مقدمته سبعمائة ألف فقص أثرهم فلحقهم بحيث تراءى الجمعان فعند ذلك ضرب موسى عليه السلام بعصاه البحر فانفلق على اثني عشر فرقاً كل فرق كالطود العظيم وبقي الماء قائماً بين الطرق فعبر موسى بمن معه من الأسباط سالمين وتبعهم فرعون بجنوده ﴿فَغَشِيَهُم﴾ سترهم وعلاهم ﴿مِّنَ الْيَمِّ﴾ أي : بحر القلزم ﴿مَا غَشِيَهُمْ﴾ أي : الموج الهائل الذي لا يعلم كنهه إلا الله.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٤٠٨
﴿وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ﴾ أي : سلك بهم مسلكاً أدّاهم إلى الخيبة والخسران في الدين والدنيا معاً حيث ماتوا على الكفر بالعذاب الهائل الدنيوي المتصل بالعذاب الخالد الأخروي ﴿وَمَا هَدَى﴾ أي : ما أرشدهم قط إلى طريق موصل إلى مطلب من المطالب الدينية والدنيوية وهو تقرير لإضلاله وتأكيد له إذرب مضل قد يرشد من يضله إلى بعض مطالبه.
وفيه نوع تهكم في قوله :﴿وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلا سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾ (غافر : ٢٩) فإن نفى الهداية من شخص مشعر بكونه ممن تتصور منه الهداية في الجملة وذلك إنما يتصور في حقه بطريق التهكم.
يقول الفقير موسى مع قومه إشارة إلى الروح القدسي مع قواه وفرعون مع قومه إشارة إلى النفس الأمارة مع قواها والبحر هو بحر الدنيا فموسى الروح يعبره إما بسفينة الشريعة أو بنور الكشف الإلهي ويغرق فرعون النفس لأنها تابعة لهواها لا شريعة لها ولا كشف فعلم منه أن اتباع أهل الضلال أنفساً وآفاقاً يؤدي إلى الهلاك الصوري والمعنوي واقتداء أهل الهدى يفضي إلى النجاة الأبدية.
زينها راز قرين بد زنهار
وقنا ربنا عذاب النار
وأحسن وجوه الاتباع الإيمان والتوحيد لأن جميع الأنبياء متفقون على ذلك والمؤمن في حصن حفظه الله تعالى من الأعداء الظاهرة والباطنة في الدنيا والآخرة.
ـ حكي ـ عن عبد الله بن الثقفي أن الحجاج أْضر أنس بن مالك وقال له : أريد أن أقتلك شر قتلة فقال أنس : لو علمت أن ذلك بيدك لعبدتك من دون الله تعالى قال الحجاج : ولم ذلك؟ قال : لأن رسول الله عليه السلام علمني دعاء وقال :"من دعا به في كل صباح لم يكن لأحد عليه سبيل"
٤٠٩
وقد دعوت به في صباحي فقال الحجاج : علمنيه قال : معاذ الله أن أعلمه لأحد وأنت حي فقال : خلوا سبيله فقيل له في ذلك فقال : رأيت على عاتقيه أسدين عظيمين فاتحين أفواههما ولما حضرته الوفاة قال لخادمه إن لك علي حقاً أي : حق الخدمة فعلمه الدعاء المذكور وقال له قل :"بسم الله خير الأسماء بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء" ثم إن هذا في الدنيا وإما في الآخرة فيحفظه من النار والعذاب.
واعلم أن موسى نصح فرعون ولكن لم ينجعه الوعظ فلم يدر قدره ولم يقبل فوصل من طريق الرد والعناد إلى الغرق والهلاك نعوذ بالله رب العباد.
فعلى العاقل أن يستمع إلى الناصح، قال الحافظ :
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٤٠٨
امروز قدر ند عزيزان شناختم
يا رب روان ناصح ما از تو شاد باد
قوله : أمروز يريد به وقت الشيخوخة وفيه إشارة إلى أن وقت الشباب ليس كوقت الكهولة ولذا ترى أكثر الشباب منكبين على سماع الملاهي معرضين عن الناصح الإلهي فمن هداه الله تعالى رجع إلى نفسه ودعا لناصحه لأنه ينصح حروفه بالفارسية (ميدوزد دريدهاى او) ولا بد للسالك من مرشد ومجاهدة ورياضة فإن مجرد وجود المرشد لا ينفعه ما دام لم يسترشد ألا ترى أن فرعون عرف حقية موسى وما جاء به لكنه أبى عن سلوك طريقه فلم ينتفع به فالأول الاعتقاد ثم الإقرار ثم الاجتهاد وقد قال بعضهم :"إن السفينة لا تجري على اليبس" والنفس تجر إلى الدعة والبطالة وقد قال تعالى :﴿انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا﴾ (التوبة : ٤١) فالعبادة لازمة إلى أن يأتي اليقين حال النشاط والكراهة والجهاد ماض إلى يوم القيامة، قال المولى الجامي قدس سره :


الصفحة التالية
Icon