المقترنون في زمن واحد.
والمعنى اغفلوا فلم يبين لهم مآل أمرهم كثرة إهلاكنا للقرون الأولى أو الفاعل الضمير العائد إلى الله.
والمعنى أفلم يفعل الله لهم الهداية فقوله : أهلكنا بيان لتلك الهداية بطريق الالتفات.
ومن القرون في محل النصب على أنه وصف لمميزكم أي : كم قرناً كائناً من القرون ﴿يَمْشُونَ فِى مَسَـاكِنِهِمْ﴾ حال من القرون أي : وهم في أمن وتقلب في ديارهم أو من الضمير في لهم مؤكداً للإنكار أي : أفلم يهد إهلاكنا للقرون السالفة من أصحاب الحجر وثمود وقريات قوم لوط حال كونهم ماشين في مساكنهم مارين بها إذا سافروا إلى الشام مشاهدين لآثار هلاكهم مع أن ذلك مما يوجب أن يهتدوا إلى الحق فيعتبروا لئلا يحل بهم مثل ما حل بأولئك.
قال الراغب : المشي الانتقال من مكان إلى مكان بإرادة والسكون ثبوت الشيء بعد تحرك ويستعمل في الاستيطان نحو سكن فلان مكان كذا أي : استوطنه واسم المكان مسكن والجمع مساكن ﴿إِنَّ فِى ذَالِكَ﴾ أي : في الإهلاك بالعذاب ﴿لايَـاتٍ﴾ كثيرة واضحة الهداية ظاهرة الدلالة على الحق فأذن هو هاد وأي هاد ﴿لاوْلِى النُّهَى﴾ جمع نهية بمعنى العقل أي : لذوي العقول الناهية عن القبائح وفيه دلالة على أن مضمون الجملة هو الفاعل لا المفعول، وفي "المثنوي" :
س ساس اوراكه مار ادر جهان
كرد يدا از س يشينيانتاشنيديم آن سياستهاى حق
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٤٤٢
برقرون ماضيه اندر سبق
استخوان وشم آن كركان عيان
بنكريد وند كيريد اى مهان
عاقل از سربنهد اين هستى وباد
ون شنيد آنجام فرعونان وعاد
ورنه بنهد ديكران از حال او
عبرتي كيرند از اضلال او
﴿وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ﴾ أي : ولولا الكلمة المتقدمة وهي العدة بتأخير عذاب هذه الأمة أي : أمة الدعوة إلى الآخرة لحكمة تقتضيه يعني أن الكلمة إخبار الله ملائكته وكتبه في اللوح المحفوظ أن أمة محمد وإن كذبوا فسيؤخرون ولا يفعل بهم ما يفعل بغيرهم من الاستئصال لعلمه أن فيهم من يؤمن ولو نزل بهم العذاب لعمهم الهلاك ﴿لَكَانَ﴾ عقاب جناياتهم ﴿لِزَامًا﴾ أي : لزاماً لهؤلاء الكفرة بحيث لا تتأخر جناياتهم ساعة لزوم ما نزل بأولئك الغابرين عند التكذيب مصدر لازم وصف به للمبالغة ﴿وَأَجَلٌ مُّسَمًّى﴾ عطف على كلمة والفصل للإشعار باستقلال كل منهما بنفي لزوم العذاب ومراعاة فواصل الآي أي : ولولا أجل مسمى لأعمارهم أو لعذابهم وهو يوم القيامة أو يوم بدر لما تأخر عذابهم أصلاً.
واعلم أن الله تعالى حرضهم على الإيمان من طريق العبرة والاستدلال رحمة منه تعالى ليعود نفعه إليهم لا له، كما قال "المثنوي" :
ون خلقت الخلق كي يربح على
لطف توقر مورد أي : قيوم وحىلا لأن أربح عليهم جودنست
كه شود زو جمله ناقصها درست
وقع في الكلمات القدسية "يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم
٤٤٣
وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً" فعلى العاقل التمسك بكلمة التوحيد حذراً من وقوع الوعيد وفي الحديث "لتدخلن الجنة كلكم إلا من أبى" قيل يا رسول الله من ذا الذي أبى؟ قال :"من لم يقل لا إله إلا الله قبل أن يحال بينكم وبينها فإنها كلمة التوحيد وهي العروة الوثقى وهي ثمن الجنة".
ثم إن تأخير العقوبة يتضمن لحكم منها رجوع التائب وانقطاع حجة المصر فينبغي للعاقل المكلف أن يتعظ بمواعظ القرآن الكريم ويتقي القادر الحكيم ويجتهد في الطاعة والانقياد ولا يكون أسوأ من الجماد مع أن الإنسان أشرف المخلوقات وأبدع المصنوعات.
عن جعفر الطيار رضي الله عنه قال : كنت مع النبي عليه السلام في طريق فاشتد علي العطش فعلمه النبي عليه السلام وكان حذاءنا جبل فقال عليه السلام :"بلّغ مني السلام إلى هذا الجبل وقل له يسقيك إن كان فيه ماء" قال : فذهبت إليه وقلت : السلام عليك أيها الجبل فقال : بنطق فصيح لبيك يا رسول رسول الله فعرضت القصة فقال : بلغ سلامي إلى رسول الله وقل له منذ سمعت قوله تعالى :﴿فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِى وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾ (البقرة : ٢٤) بكيت لخوف أن أكون من الحجارة التي هي وقود النار بحيث لم يبق فيّ ماء يقال من لم ينزجر بزواجر القرآن ولم يرغب في الطاعات فهذا أشد قسوة من الحجارة وأسوء حالاً من الجمادات نسأل الله تليين القلوب.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٤٤٢
﴿فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ﴾ أي : إذا كان الأمر على ما ذكر من أن تأخير عذابهم ليس بإهمال بل إمهال وإنه لازم لهم البتة فاصبر على ما يقولون فيك من كلمات الكفر والنسبة إلى السحر والجنون إلى أن يحكم فيهم فإن علمه عليه السلام بأنهم معذبون لا محالة مما يسليه ويحمله على الصبر.