جماعتان ﴿رَتْقًا﴾ على حذف المضاف أي : ذواتي رتق بمعنى ملتزقتين ومنضمتين لا فضاء بينهما ولا فرج فإن الرتق هو الضم والالتحام خلقة كان أو صنعة ﴿فَفَتَقْنَـاهُمَا﴾ الفتق الفصل بين المتصلين وهو ضد الرتق أي : ففصلنا وفرقنا إحداهما عن الأخرى بالريح وفي الحديث المشهور "أول ما خلق الله جوهرة فنظر إليها بنظر الهيبة فذابت وارتعدت من خوف ربها فصارت ماء ثم نظر إليها نظر الرحمة فجمد نصفها فخلق منه العرش وارتعد العرش فكتب عليه لا إله إلا الله محمد رسول الله فسكن العرش فترى الماء يرتعد إلى يوم القيامة" وذلك قوله تعالى :﴿وَكَانَ عَرْشُه عَلَى الْمَآءِ﴾ أي : العذب "ثم حصل من تلاطم الماء أدخنة متراكمة بعضها على بعض وزبد فخلق منها السموات والأرض طباقاً وكانتا رتقاً وخلق الريح فيها ففتق بين طباق السموات وطباق الأرض" كما أخبر بقوله :﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ وَهِىَ دُخَانٌ﴾ وإنما خلقها من دخان ولم يخلقها من بخار لأن الدخان خلق متماسك الأجزاء يستقر عند منتهاه والبخار يتراجع وذلك من كمال علمه وحكمته "ثم بعد ذلك مد الزبد على وجه الماء ودحاه فصار أرضاً بقدرته" وذلك قوله تعالى :﴿وَالارْضَ بَعْدَ ذَالِكَ دَحَـاـاهَآ﴾ (النازعات : ٣٠) (وكفته اند آسمان بسته بود ازوى باران نمى آمد وزمين بسته بود ازو كياه نمى رست ما آن را بباران واين را بكياه كشاديم) يعني فتق السماء وهي أشد الأشياء وأصلبها بألين الأشياء وهو الماء وكذلك فتق الأرض بألين الأشياء وهو النبات مع شدتها وصلابتها.
فإن قيل المفتوقة بالمطر هي سماء الدنيا فما معنى الجمع؟ قلنا : جمع السموات لأن لها مدخلاً في الأمطار إذ التأثير إنما يحصل من جهة العلو.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٤٦٧
واعلم أن الفتق صفة الله تعالى كالعلم والقدرة وغيرهما فهو أزلي والمفتوق حادث بحدوث التعلق كما في العلم وغيره من الصفات التي لا يلزم من قدمها قدم متعلقاتها فتكون تعلقاتها حادثة.
فقول البيضاوي إن الفتق عارض خطأ كما في "بحر العلوم" ﴿وَجَعَلْنَا﴾ خلقنا ﴿مِنَ الْمَآءِ﴾ الماء جسم سيال قد أحاط حول الأرض ﴿كُلَّ شَىْءٍ حَىٍّ﴾ أي : كل حيوان عرف الماء باللام قصداً إلى الجنس أي : جعلنا مبدأ كل شيء حي من هذا الجنس أي : جنس الماء وهو النطفة كما في قوله تعالى :﴿وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ﴾ (النور : ٤٥) أي : كل فرد من أفراد الدواب من نطفة معينة هي نطفة أبيه المختصة به أو كل نوع من أنواع الدواب من نوع من أنواع المياه وهو نوع النطفة التي تختص بذلك النوع من الدواب.
يقول الفقير : قد فرقوا بين الحي والحيوان بأن كل حيوان حي وليس كل حي حيواناً كالملك فالظاهر ما جاء في بعض الروايات من "أن الله تعالى خلق الملائكة من ريح خلقها من الماء وآدم من تراب خلقه منه والجن من نار خلقها منه".
وقال بعضهم : يدخل في الآية النبات والشجر لنمائهما بالماء والحياة قد تطلق على القوة النامية الموجودة في النبات والحيوان كما في "المفردات" ويدل على حياتهما قوله تعالى :﴿وَيُحْىِ الارْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ (الروم : ١٩) كما في "الكبير" ﴿أَفَلا يُؤْمِنُونَ﴾ (آيا نمى كردند مشركان باوجود اين آيات واضحة).
وفي "التأويلات النجمية" يشير بقوله ﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَـاهُمَا﴾ إلى أن أرواح المؤمنين والكافرين خلقت قبل السموات والأرض كما قال عليه السلام :"إن الله خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي ألف عام" وفي رواية "بأربعة آلاف سنة وكان خلق السموات والأرض
٤٧١
بمشهد من الأرواح وكانتا شيئاً واحداً" كما جاء في الحديث المشهور "أول ما خلق الله جوهرة" ويشير بقوله :﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَآءِ كُلَّ شَىْءٍ حَىٍّ﴾ إلى أنه تعالى خلق حياة كل ذي حياة من الحيوانات من الماء الذي عليه عرشه وذلك أن الجوهرة التي هي مبدأ الموجودات وهي الروح الأعظم خلقت أرواح الإنسان والملك من أعلاها وخلقت أرواح الحيوانات والدواب من أسفلها وهي الماء كما قال :﴿وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ﴾ وكان ذلك كله بمشهد الأرواح فلذلك قال :﴿أَفَلا يُؤْمِنُونَ﴾ أي : أفلا يؤمنون بما خلقنا بمشهد من أرواحهم انتهى.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٤٦٧
واعلم أن المراد من رؤية الآيات الانتقال منها إلى رؤية صانعها رؤية قلبية هي حقيقة الإيمان.