ـ روي ـ أنه دخل على داود عليه السلام رجلان فقال أحدهما إن غنم هذا دخلت في حرثي ليلاً فأفسدته فقضى له بالغنم إذ لم يكن بين قيمة الحرث وقيمة الغنم تفاوت فخرجا فمرا على سليمان عليه السلام فأخبراه بذلك فقال غير هذا أرفق بالفريقين فسمعه داود فدعاه فقال له بحق النبوة والأبوة إلا أخبرتني بالذي هو أرفق بالفريقين؟ فقال : أرى أن تدفع الغنم إلى صاحب الأرض لينتفع بدرها ونسلها وصوفها والحرث إلى أرباب الغنم ليقوموا عليه أي : بالحرث والزرع حتى يعود إلى ما كان ويبلغ الحصاد ثم يترادّا فقال القضاء : ما قضيت وأمضى الحكم بذلك.
قال في "الإرشاد" الذي عندي أن حكمهما كان بالاجتهاد فإن قول سليمان غير هذا أرفق بالفريقين ثم قوله أرى أن تدفع الخ صريح في أنه ليس بطريق الوحي وإلا لبت القول بذلك ولما ناشده داود لإظهار ما عنده بل وجب عليه أن يظهره ابتداء وحرم عليه كتمه ومن ضرورته أن يكون القضاء السابق أيضاً كذلك ضرورة استحالة نقض حكم النص بالاجتهاد انتهى والاجتهاد بذل الفقيه الوسع ليحصل له ظن بحكم شرعي وهو جائز للأنبياء عند أهل السنة ليدركوا ثواب المجتهدين وليقتدي بهم غيرهم ولذا قال عليه السلام :"العلماء ورثة الأنبياء" فإنه يستلزم أن تكون درجة الاجتهاد ثابتة للأنبياء ليرث العلماء عنهم ذلك إلا أن الأنبياء لا يقرون على خطأ وفي الحديث "إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران وإذا حكم واجتهد وأخطأ فله أجر" وفي كل حادثة حكم معين عند الله وعليه دليل قطعي أو ظني فمن وجده أصاب ومن فقده أخطأ ولم يأنم.
فإن قيل لو تعين الحكم فالمخالف له لم يحكم بما أنزل الله فيفسق أو يكفر.
قلنا إنه أمر بالحكم بما ظنه وإن أخطأ فقد حكم بما أنزل الله.
قال في "بحر العلوم" : واعلم أن في هذه الآية دليلاً على أن المجتهد
٥٠٥
يخطىء أو يصيب وأن الحق واحد في المسائل الاجتهادية إذ لو كان كل من الاجتهادين صواباً وحقاً لكان كل منهما قد أصاب الحق وفهمه ولم يكن لتخصيص سليمان خلافه بالذكر جهة فإنه في هذا المقام يدل على نفي الحكم عما عداه وعلى أن للأنبياء اجتهاداً كما للعلماء على أنه لو كان كل مجتهد مصيباً لزم اتصاف الفعل الواحد بالنقيضين من الصحة والفساد والوجوب والحظر والإباحة وهو ممتنع، وفي "المثنوي" :
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٥٠٤
وهم افتد در خطا ودر غلط
عقل باشد در اصابتها فقطمجتهد هركه كه باشد نص شناس
اندران صوت نينديشد قياسون نيايد نص اندر صورتى
از قياس آنجا نمايد عبرتى
﴿وَسَخَّرْنَا﴾ (ورام ساختيم) ﴿مَعَ دَاوُادَ الْجِبَالَ﴾ مع متعلقة بالتسخير وهو تذليل الشيء وجعله طائعاً منقاداً.
وسفن مواخر إذا أطاعت وطابت لها الريح ﴿يُسَبِّحْنَ﴾ حال من الجبال أي : يقدسن الله تعالى بحيث يسمع الحاضرون تسبيحهن فإنه هو الذي يليق بمقام الامتنان لا انعكاس الصدى فإنه عام وكذا ما كان بلسان الحال فاعرف ﴿وَالطَّيْرُ﴾ عطف على الجبال وقدمت الجبال على الطير لأن تسخيرها وتسبيحها أعجب وأدل على القدر وأدخل في الإعجاز لأنها جماد والطير حيوان ﴿وَكُنَّا فَـاعِلِينَ﴾ قادرين على أن نفعل هذا وإن كان عجباً عندكم.
ـ روي ـ أن داود كان إذا مر يسمعه الله تسبيح الجبال والطير لينشط في التسبيح ويشتاق إليه.
قال الكاشفي :(مؤمن موقن بايدكه اعتقاد كند برين وجه كه كوهها ومرغان بموافقت داود بروجهى تسبيح مى كفته اندكه همه سامعانرا تركيب حروف وكلمات آن مفهوم ميشده واين معنى ازقدرت الهي غريب نيست) :
هر كجا قدرتش علم افراخت
ازغرائب هر آنه خواست بساخت
قدرتى را كه نيست نقصانش
كارها جمله هست آسانش
وفي "التأويلات النجمية" يشير إلى أن الذاكرإذا استولى عليه سلطان الذكر تتنور أجزاء وجوده بنور الذكر فيتجوهر قلبه وروحه بجوهر الذكر فربما ينعكس نور الذكر من مرآة القلب إلى ما يحاذيها من الجمادات والحيوانات فتنطقه بالذكر فتارة يذكر معه أجزاء وجوده وتارة يذكر معه بعض الجمادات والحيوانات كما كانت الحصاة تسبح في يد رسول الله صلى الله عليه وسلّم والضب يتكلم معه.
ـ وروي ـ عن بعض الصحابة رضي الله عنهم أنه قال : كنا نأكل الطعام ونسمع تسبيحه انتهى.
وفي "عرائس البقلى" رحمه الله كان يطلب كل وقت مكاناً خالياً لذكره وأنسه فيدخل الجبال لأنها ملتبسة بأنوار قدرته خالية عن صنع أهل الحدثان باقية على ما أخرجت من العدم بكسوة نور القدم فإذا كان مسبحاً سبحت الجبال معه والطير بلسان نور الفعل الحق كأنه تعالى ينزه نفسه بتنزيه داود حيث غلب على داود سطوات عظمته ونور كبريائه.
قال محمد بن علي رحمه الله : جعل الله الجبال تسلية للمجذوبين وأنساً للمكروبين والانس الذي في الجبال هو أنها خالية عن صنع الخلائق فيها بحال باقية على صنع الخالق لا أثر فيها لمخلوق فتوحش والآثار التي فيها آثار الصنع الحقيقي عن غير تبديل ولا تحويل انتهى.
قال ابن عباس رضي الله
٥٠٦


الصفحة التالية
Icon