ثم إن الله تعالى غفور من حيث الأفعال يتجلى لأهل التزكية من مرتبة توحيد الأفعال وغفور من حيث الصفات يتجلى لهم من مرتبة توحيد الصفات وغفور من حيث الذات يتجلى لهم من مرتبة توحيد الذات فيستر أفعالهم وصفاتهم وذواتهم وينعم عليهم بآثار أفعاله وأنوار صفاته وأسرار ذاته فيتخلصون من الفاني ويصلون إلى الباقي ويجدون ثمرات المجاهدات وهي المشاهدات ونتائج المفارقات وهي المواصلات وعواقب المعاقبات وهي التنعم في الجنات العاليات والاستراحة الدائمة في مقامات القربات اللهم اعنا على سلوك سبيل الهجرة والصبر والجهاد واحفظنا من فتنة أهل البغي والفساد إنك أنت الأهل للإعانة والإمداد.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٨٦
﴿يَوْمَ تَأْتِى كُلُّ نَفْسٍ﴾ منصوب باذكر والمراد يوم القيامة ﴿تُجَـادِلُ عَن نَّفْسِهَا﴾ أضاف النفس إلى النفس لأنه يقال لعين الشيء نفسه ولنقيضه غيره والنفس جملة الشيء أيضاً فالنفس الأولى بمعنى الجملة والثانية بمعنى العين والذات.
والمعنى أذكر يا محمد ويا كل من يصلح للخطاب يوم يأتي كل إنسان يجادل ويخاصم عن ذاته يسعى في خلاصه بالاعتذار كقولهم هؤلاء أضلونا وما كان مشركين لا يهمه شان غيره فيقول نفسي نفسي وذلك حين زفرت جهنم زفرة فلا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا جثا على ركبتيه حتى خليل الرحمن عليه السلام وقال رب نفسي أي : أريد نجاة نفسي.
قال أحمد الدورقي مات رجل من جيراننا شاب فرأيته في الليل وقد شاب فقلت : ما قصتك قال دفن بشر المريسي في مقبرتنا فزفرت جهنم زفرة شاب منها كل من في المقبرة وبشر أخذ الفقه عن أبي يوسف القاضي إلا أنه اشتغل بالكلام وقال بخلق القرآن وأضل خلقاً كثيراً ببغداد في زمن المأمون وقطعه عبد العزيز الكتاني وبالجملة كان بشر من جملة شياطين الانس حتى نصبه الشيطان خليفة لمن في بغداد إذ فعل بالخلق ما فعله الشيطان من الإضلال، قال الحافظ :
دام سختست مكر لطف خداي شود
ورنه آدم نبرد صرفه زشيطان رجيم
٨٧
وقال :
سزدم وابر بهمن كه درين من بكريم
طرب آشيان بلبل بنكر كه زاغ دارد
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٨٦
قال في "التأويلات النجمية" :﴿كُلُّ نَفْسٍ﴾ على قدر بقاء وجودها ﴿تُجَـادِلُ عَن نَّفْسِهَا﴾ إما دفعاً لمضارها أو جذباً لمنافعها حتى الأنبياء عليهم السلام يقولون نفسي نفسي إلا محمداً صلى الله عليه وسلّم فإنه فان عن نفسه باق بربه فإنه يقول أمتي أمتي لأنه المغفور من ذنب وجوده المتقدم في الدنيا والمتأخر في الآخرة بما فتح له ليلة المعراج إذ واجهه بخطاب السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ففنى عن وجوده بالسلام وبقي بوجوده بالرحمة وكان رحمة مهداة أرسل ببركاته إلى الناس كافة ولكنه رفع المنزلة من تلك الضيافة خاصة لخواص متابعيه كما قال السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين يعني الذين صلحوا لبذل الوجود في طلب المقصود ونيل الجود فما بقي لهم مجادلة عن نفوسهم مع الخلق والخالق كما قال بعضهم كل الناس يقولون غداً نفسي نفسي وأنا أقول ربي ربي ﴿وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ﴾ برة أو فاجرة أي : تعطي وافياً كاملاً وبالفارسية (تمام داده شود هر نفس را) ﴿مَّا عَمِلَتْ﴾ أي : جزاء ما عملت بطريق إطلاق اسم السبب على المسبب إشعاراً بكمال الإتصال بين الأجزية والأعمال وإيثار الإظهار على الإضمار للإيذان باختلاف وقتي المجادلة والتوفية وإن كانتا في يوم واحد ﴿وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ﴾ لا ينقصون أجورهم ولا يعاقبون بغير موجب ولا يزاد في عقابهم على ذنوبهم.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما ما تزال الخصومة بين الناس يوم القيامة حتى يخاصم الروح الجسد يقول الروح يا رب لم يكن لي يد أبطش بها ولا رجل أمشي بها ولا عين أبصر بها ويقول : الجسد خلقتني كالخشب ليست لي يد أبطش بها ولا رجل أمشي بها ولا عين أبصر بها فجاء هذا كشعاع النور فيه نطق لساني وأبصرت عيني ومشت رجلي قال : فيضرب لهما مثلاً مثل أعمى ومقعد دخلاً حائطاً وفيه ثمار فالأعمى لا يبصر الثمار والمقعد لا ينالها فحمل الأعمى المقعد فأصابا من الثمر فعليهما العذاب كذا في "تفسير السمرقندي" وفيه إشارة إلى أن كل نفس عملت سوأ توفي العذاب بنار الجحيم ونار القطعية وكل نفس عملت خيراً توفي الثواب من نعيم الجنان ولقاء الرحمن فلا يعذب أهل النعيم ولا يثاب أهل الجحيم كذا في "التأويلات النجمية".
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٨٦