وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى تعظيم المشايخ فإن الشيخ في قومه كالنبي في أمته أي عظموا حرمة الشيوخ في الخطاب واحفظوا في خدمتهم الأدب وعلقوا طاعتهم على مراعاة الهيبة والتوقير ﴿قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ﴾ قد للتحقيق بطريق الاستعارة لاقتضاء الوعيد إياه كما أن رب يجيء للتكثير.
وفي "الكواشي" : قد هنا مؤذنة بقلة المتسللين لأنهم كانوا أقل من غيرهم.
والتسلل الخروج من البين على التدريج والخفية يقال : تسلل الرجل أي انسرق من الناس وفارقهم بحيث لا يعلمون والمعنى يعلم الله الذين يخرجون من الجماعة قليلاً قليلاً على خفية ﴿لِوَاذًا﴾ هو أن يستتر بشيء مخافة من يراه كما في "الوسيط".
قال في "القاموس" : اللوذ بالشيء الاستتار والاحتصان به كاللواذ مثلثة انتهى.
والمعنى ملاوذة بأن يستتر بعضهم ببعض حتى يخرج أو بأن يلوذ بمن يخرج بالإذن، إراءة أنه من أتباعه وانتصابه على الحالية من ضمير يتسللون أي ملاوذين أو على أنه مصدر مؤكد بفعل مضمر هو الحالة في الحقيقة أي يلاوذون لواذاً وهو عام للتسلل من صف القتال ومن المسجد يوم الجمعة وغيرهما من المجامع الحقة.
وقال بعضهم : كان يثقل على المنافقين خطبة النبي يوم الجمعة فيلوذون ببعض أصحابه أو بعضهم ببعض فيخرجون من المسجد في استتار من غير استئذان فأوعدهم الله تعالى بهذه الآية ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ﴾ يخالفون أمره بترك مقتضاه ويذهبون سمتاً بخلاف سمته وعن لتضمينه معنى الإعراض والميل والضميرلأنه الآمر حقيقة
١٨٥
أو للرسول لأنه المقصود بالذكر.
﴿إِنْ﴾ أي : من أن ﴿تُصِيبَهُمْ﴾ (برسدريشان) ﴿فِتْنَةٌ﴾ محنة في الدنيا في البدن أو في المال أو في الولد كالمرض والقتل والهلاك وتسلط السلطان.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ١٨٣
قال الكاشفي :(يا مهر غفلت بردل يا روى توبه.
جنيد قدس سره فرموده كه فتنه سختىء دلست ومتأثر ناشدن أو ازمعرفت إلهي) ﴿أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ أي : في الآخرة.
وفي "الجلالين" ﴿أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ﴾ بلية تظهر نفاقهم ﴿أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ عاجل في الدنيا انتهى وكلمة أو لمنع الخلو دون الجمع وإعادة الفعل صريحاً للاعتناء بالتحذير وفي ترتيب العذابين على المخالفة دلالة على أن الأمر للوجوب.
وفي "التأويلات النجمية" :﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ﴾ أي : عن أمر شيخهم ﴿أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ﴾ من موجبات الفترة بكثرة المال أو قبول الخلق أو التزويج بلا وقته أو السفر بلا أمر الشيخ أو مخالفة الأحداث والنسوان والافتتان بهم أو صحبة الأغنياء أو التردد على أبواب الملوك أو طلب المناصب أو كثرة العيال فإن الاشتغال بما سوى الله فتنة.
﴿أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ بالانقطاع عن الله انتهى.
وفي "حقائق البقلي" : الفتنة ههنا والله أعلم فتنة صحبة الأضداد والمخالفين والمنكرين وذلك أن من صاحبهم يسوء ظنه بأولياء الله لأنهم أعداء الله وأعداء أوليائه يقعون كل وقت في الحق ويقبحون أحوالهم عند العامة لصرف وجوه الناس إليهم وهذه الفتنة أعظم الفتن.
قال أبو سعيد الحراز رحمه الله الفتنة هي إسباغ النعم مع الاستدراج من حيث لا يعلم العبد.
وقال رويم : الفتنة للعوام والبلاء للخواص.
وقال أبو بكر بن طاهر : الفتنة مأخوذ بها والبلاء معفو عنه ومثاب عليه.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ١٨٣
﴿إِلا﴾ (بدانيدو آكاه باشيد) ﴿إِنَّ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالارْضِ﴾ من الموجودات بأسرها خلقاً وملكاً وتصريفاً إيجاداً وإعداماً بدأ وإعادة ﴿قَدْ﴾ كما قبله.
﴿يَعْلَمُ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ﴾ أيها المكلفون من الأحوال والأوضاع التي من جملتها الموافقة والمخالفة والإخلاص والنفاق.
﴿وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ﴾ عطف على ما أنتم عليه ويوم مفعول به لا ظرف أي يعلم تحقيقاً يوم يرد المنافقون المخالفون للأمر إليه تعالى للجزاء والعقاب فيرجعون من الرجع المتعدي لا من الرجوع اللازم والعلم بوقت وقوع الشيء مستلزم للعلم بوقوعه على أبلغ وجه ﴿فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا﴾ من الأعمال السيئة أي يظهر لهم على رؤوس الاشهاد ويعلمهم أي شيء شنيع عملوا في الدنيا ويرتب عليه ما يليق به من الجزاء وعبر عن اظهاره بالتنبئة لما بينهما من الملابسة في أنهما سببان للعلم تنبيهاً على أنهم كانوا جاهلين بحال ما ارتكبوه غافلين عن سوء عاقبته لغلبة أحكام الكثرة الخلقية الإمكانية وآثار الأمزجة الطبيعية الحيوانية في نشأتهم.
﴿وَاللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ﴾ لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء وإن كان المنافقون يجتهدون في ستر أعمالهم عن العيون وأخفائها.
آنكس كه بيا فريد يدا ونهان
ون نشناسد نهان ويدابجهان
وفي "التأويلات النجمية" :﴿أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالارْضِ﴾ من نعيم الدنيا والآخرة فمن تعلق بشيء منه يبعده الله عن الحضرة ويؤاخذه بقدر تعلقه بغيره.
﴿وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ﴾ بسلاسل المتعلقات ﴿فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا﴾ عند مطالبتهم بمكافأة الخير خيراً ومجازاة الشر شراً
١٨٦
﴿وَاللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ﴾ أي بكل شيء من مكافأة الخير ومجازاة الشر عليم بالنقير والقطمير مما عملوا من الصغير والكبير انتهى.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ١٨٦
واعلم أن التعلق بكل من نعيم الدنيا ونعيم الآخرة حرام على أهل الله تعالى نعم إن أهل الله يحبون الآخرة بمعنى أن الآخرة في الحقيقة هو الآخر بالكسر وهو الله تعالى.
قال بعض أهل الحقيقة : ما ألهاك عن مولاك فهو دنياك.
فعلى العاقل أن يقطع حبل العلاقات ويتصل بسر تجرد الذات والصفات ويتفكر في أمره ويحاسب نفسه قبل أن يجيء يوم الجزاء والمكافآت فإن عقب هذه الحياة ممات وهذا البقاء ليس على الدوام والثبات وفي الحديث :"ما قال الناس لقوم طوبى لكم إلا وقد خبأ لهم الدهر يوم سوء" قال الشاعر :
إن الليالي لم تحسن إلى أحد
ألا اساءت إليه بعد إحسان
وقال آخر :
أحسنت ظنك بالأيام إذ حسنت
ولم تخف شر ما يأتي به القدر
وقال آخر :
لا صحة المرء في الدنيا تؤخره
ولا يقدم يوماً موته الوجع
﴿وَاللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ﴾ من يوم الموت والرجوع اختياراً واضطراراً وغير ذلك من الأمور سراً وجهراً فطوبى لمن شاهد ولاحظ هذا الأمر وختم بالخوف والمراقبة الوقت والعمر.
تمت سورة النور يوم السبت الثالث من شهر الله رجب من سنة ثمان ومائة وألف.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ١٨٦


الصفحة التالية
Icon