أن يعلم أنه بمرأى من الله تعالى ومسمع فلا يستهين بنظره إليه واطلاعه عليه ومن أخفى عن غير الله ما لا يخفيه عن الله فقد استهان بنظر الله والمراقبة إحدى ثمرات الإيمان بهذه الصفة فمن قارب معصية فهو يعلم أن الله يراه فما أجسره فأخسره ومن ظن أنه لا يراه فما أكفره انتهى كلام الغزالي رحمه الله في "شرح الأسماء الحسنى".
ثم إن العبد لا بد له من السكون إلى قضاء الله تعالى في حال فقره وغناه ومن الصبر على كل أمر يرد عليه من مولاه فإنه تعالى بصير بحاله مطلع عليه في كل فعاله وربما يشدد المحنة عليه بحكمته ويمنع مراده عنه مع كمال قدرته.
قال حضرة الشيخ العطار قدس سره :
جزء : ٦ رقم الصفحة : ١٩٨
مكر ديوانة شوريده ميخاست
برهنه بد زحق كرباس ميخواست
كه إلهي يرهن در تن ندارم
وكر تو صبر داري من ندارم
خطابي آمد آن بي خويشتن را
كه كرباست دهم أما كفن را
زبان بكشاد آن مجنون مضطر
كه من دانم ترا أي بنده رور
كه تا أول نميرد مرد عاجز
توندهي هي كرباسيش هركز
ببايد مرد أول مفلس وعور
كه تا كر باس ايد ازتو دركور
وفي الحكاية إشارة إلى الفناء عن المرادات وأن النفس مادامت مغضوبة باقية بعض أوصافها الذميمة وأخلاقها القبيحة فإن فيض رحمة الله وإن كان يجري عليها لكن لا كما يجري عليها إذا كانت مرحومة مطهرة عن الرذائل هذا حال أهل السلوك وأما من كان من أهل النفس الأمارة وقد جرى عليه مراده بالكلية فهو في يد الاستدراج ولله تعالى حكمة عظيمة في إغنائه وتنعيمه وإغراقه في بحر نعيمه فمثل هذا هو الفتنة الكبيرة لطلاب الحق الباعثة لهم على الصبر المطلق والله المعين وعليه التكلان.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ١٩٨
﴿وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَآءَنَا﴾ أصل الرجاء ظن يقتضي حصول ما فيه مسرة واللقاء يقال في الإدراك بالحس بالبصر وبالبصيرة وملاقاة الله عبارة عن القيامة وعن المصير إليه أي الرجوع إلى حيث لا حاكم ولا مالك سواه.
والمعنى وقال الذين لا يتوقعون الرجوع إلينا أي ينكرون البعث والحشر والحساب والجزاء وهم كفار أهل مكة.
وفي "تاج المصادر" : الرجاء (اميد داشتن وترسيدن) انتهى فالمعنى على الثاني بالفارسية (نمى ترسند ازديدن عذاب ما).
﴿لَوْلا﴾ حرف تحضيض بمعنى هلا ومعناها بالفارسية (را) ﴿أُنزِلَ عَلَيْنَا الملائكة﴾ (فروفر ستاده نمى شو دبر ما فرشتكان) أي بطريق الرسالة لكون البشرية منافية للرسالة بزعمهم.
﴿أَوْ نَرَى رَبَّنَا﴾ جهرة وعياناً فيأمرنا بتصديق محمد واتباعه لأن هذا الطريق
١٩٩
أحسن وأقوى في الإفضاء إلى الإيمان وتصديقه ولما لم يفعل ذلك علمنا أنه ما أراد تصديقه.
ومن لطائف الشيخ نجم الدين في تأويله أنه قال : يشير إلى أن الذين لا يؤمنون بالآخرة والحشر من الكفرة يتمنون رؤية ربهم بقولهم :﴿أَوْ نَرَى رَبَّنَا﴾ فالمؤمنون الذين يدعون أنهم يؤمنون بالآخرة والحشر كيف ينكرون رؤية ربهم وقد ورد بها النصوص فلمنكري الحشر عليهم فضيلة بأنهم طلبوا رؤية ربهم وجوزوها كما جوزوا إنزال الملائكة ولمنكري الرؤية ممن يدعي الإيمان شركة مع منكري الحشر في جحد ما ورد به الخبر والنقل لأن النقل كما ورد بكون الحشر ورد بكون الرؤية لأهل الإيمان.
﴿لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا﴾ اللام جواب قسم محذوف أي والله استكبروا.
والاستكبار أن يشبع فيظهر من نفسه ما ليس له أي أظهروا الكبر باطلاً.
﴿فِى أَنفُسِهِمْ﴾ أي في شأنها يعني وضعوا لأنفسهم قدراً ومنزلة حيث أرادوا لأنفسهم الرسل من الملائكة ورؤية الرب تعالى.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ١٩٩
وقال الكاشفي :(بخداي كه بزركي كردند در نفسهاي خود يعني تعاظم ورزيدن وجراءت نمودن درين تحكم) ﴿وَعَتَوْ﴾ أي تجاوزا الحد في الظلم والطغيان والعتو الغلو والنبو عن الطاعة.
﴿عُتُوًّا كَبِيرًا﴾ بالغاً إلى أقصى غاياته من حيث عاينوا المعجزات القاهرة واعرضوا عنها واقترحوا لأنفسهم الخبيثة معاينة الملائكة الطيبة ورؤية الله تعالى التي لم ينلها أحد في الدنيا من أفراد الأمم وآحاد الأنبياء غير نبينا عليه السلام وهو إنما رآه تعالى بعد العبور عن حد الدنيا وهو الأفلاك السبعة التي هي من عالم الكون والفساد.
وفي "الوسيط" : إنما وصفوا بالعتو عند طلب الرؤية لأنهم لبوها في الدنيا عناداً للحق وإباء على الله ورسوله في طاعتهما فغلوا في القول والكفر غلواً شديداً.
وفي "الأسئلة المقحمة" : فإذا كان رؤية الله جائزة فكيف وبخهم على سؤالهم لها؟ قلنا : التوبيخ بسبب أنهم طلبوا ما لم يكن لهم طلبه لأنهم بعد أن عاينوا الدليل قد طلبوا دليلاً آخر ومن طلب الدليل بعد الدليل فقد عتا عتواً ظاهراً ولأنهم كلفوا الإيمان بالغيب فطلبوا رؤية الله وذلك خروج عن موجب الأمر وعن مقتضاه فإن الإيمان عند المعاينة لا يكون إيماناً بالغيب فلهذا وصفهم بالعتو.