﴿الَّذِى خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ﴾ محل الموصول الجر على أنه صفة أخرى للحي ﴿وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ من الأركان والمواليد ﴿فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾ في مدتها من أيام الدنيا لأنه لم يكن ثمة شمس ولا قمر وذلك مع قدرته على خلقها في أسرع لمحة ليعلم العباد أن التأني مستحب في الأمور ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ أصل الاستواء الاستقرار والتساوي واعتدال الشيء في ذاته ومتى عدي بعلى اقتضى معنى الاستيلاء والغلبة كما في "المفردات" وهو المراد هنا ومعنى الاستيلاء عليه كناية عن الملك والسلطان.
والمراد بيان نفاذ تصرفه فيه وفيما دونه لكنه خص العرش بالذكر لكونه أعظم الأجسام.
﴿الرَّحْمَـانِ﴾ خبر مبتدأ محذوف أي الذي خلق الأجرام العلوية والسفلية وما بينهما هو الرحمن وهو تمهيد لما يأتي من قوله :
٢٣٤
﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَـانِ﴾ (الفرقان : ٦٠) وبيان أن المراد من الاستواء المذكور في الحقيقة تعيين مرتبة الرحمانية ﴿الَّذِى خَلَقَ﴾ متعلق بما بعده وهو ﴿خَبِيرًا﴾ كما في قوله :﴿إِنَّه بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ (التوبة : ١١٧) ونظائره أي فاسأل خبيراً بما ذكر من الخلق والاستواء يعني الذي خلق واستوى لأنه هو الخبير بأفعاله وصفاته كما قال :﴿وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ﴾ (فاطر : ١٤) وقال :﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَه إِلا اللَّهُ﴾ (آل عمران : ٧) ومن جعل قوله :﴿وَالراَّسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ (آل عمران : ٧) عطفاً على إلا الله يكون الخبير المسؤول منه هو الراسخون في العلم وقد مر تحقيق الآية في سورة الأعراف وسورة يونس وسورة طه فارجع.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٢٣٤
وفي "الفتوحات المكية" : لما كان الحق تعالى هو السلطان الأعظم ولا بد للسلطان من مكان يكون فيه حتى يقصد بالحاجات مع أنه تعالى لا يقبل المكان اقتضت المرتبة أن يخلق عرشاً ثم ذكر أنه استوى عليه حتى يقصد بالدعاء وطلب الحوائج منه كل ذلك رحمة للعباد وتنزلاً لعقولهم ولولا ذلك لبقي العبد حائراً لا يدري أين يتوجه بقلبه وقد خلق الله تعالى القلب ذا جهة فلا يقبل إلا ما كان له جهة وقد نسب الحق تعالى لنفسه الفوقية من سماء وعرش وإحاطة بالجهات كلها بقوله :﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾ (البقرة : ١١٥) وبقوله : ينزل ربنا إلى سماء الدنيا وبقوله عليه السلام :"إن الله في قبلة أحدكم" وحاصله أن الله تعالى خلق الأمور كلها للمراتب لا للأعيان انتهى ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ﴾ أي لهؤلاء المشركين ﴿اسْجُدُوا﴾ صلوا وعبر عن الصلاة بالسجدة لأنها من أعظم أركانها ﴿لِلرَّحْمَـانِ﴾ الذي برحمته أوجد الموجودات ﴿قَالُوا وَمَا الرَّحْمَـانُ﴾ أي أي شيء هو أو من هو لأن وضع ما أعم وهو سؤال عن المسمى بهذا الاسم لأنهم ما كانوا يطلقونه على الله ولا يعرفون كونه تعالى مسمى بهذا الاسم وإن كان مذكوراً في الكتب الأولى أنه من أسماء الله تعالى أو لأنهم كانوا يعرفون كونه تعالى مسمى بهذا الاسم إلا أنهم يزعمون أنه قد يراد به غيره وهو مسيلمة الكذاب باليمامة فإنه يقال رحمن اليمامة وكان المشركون يكذبونه ولذلك غالطوا بذلك وقالوا : إن محمداً يأمرنا بعبادة رحمن اليمامة ونظيره أن المنافقين صدرت منهم كلمات وحركات في حق النبي عليه السلام بالاستهزاء والاستسخار فقال تعالى ﴿وَلَـاـاِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ﴾ (التوبة : ٦٥) فغالطوا في الجواب عن ذلك بهاتين اللفظتين الموهمتين صدق ما كانوا فيه حتى كذبهم الله تعالى بقوله :﴿قُلْ أَبِاللَّهِ وَءَايَـاتِه وَرَسُولِه كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ﴾ (التوبة : ٦٥) والمغالطة هو أن المنشىء أو المتكلم يدل على معنى له مثل أو نقيض في شيء ويكون المثل أو النقيض أحسن موقعاً لإرادته الإبهام به كذا في "العقد الفريد" للعلامة ابن طلحة ﴿أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا﴾ بسجوده من غير أن نعرف أن المسجود له ماذا وهو استفهام إنكار أي لا نسجد للرحمن الذي تأمرنا بسجودنا له ﴿وَزَادَهُمْ﴾ أي الأمر بالسجود للرحمن.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٢٣٤
﴿نُفُورًا﴾ عن الإيمان.
والنفور الانزعاج عن الشيء والتباعد وهو نظير قوله :﴿فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَآءِى إِلا فِرَارًا﴾ (نوح : ٦) فمن جهل وجود الرحمن أو علم وجوده وفعل فعلاً أو قال قولاً لا يصدر إلا من كافر فكافر بالاتفاق كما في "فتح الرحمن" وذلك كما إذا سجد للصنم أو ألقى المصحف في المزابل أو تكلم بالكفر يكفر بلا خلاف لكونه علامة التكذيب.
وكان سفيان الثوري رحمه الله إذا قرأ هذه الآية رفع رأسه إلى السماء وقال : إلهي زادني خضوعاً ما زاد أعداءك نفوراً وقال رجل لرسول الله
٢٣٥
صلى الله عليه وسلّم ادع الله أن يرزقني مرافقتك في الجنة قال :"أعني بكثرة السجود".
قال في "فتح الرحمن" : وهذا محل سجود بالاتفاق.


الصفحة التالية
Icon