قلت : هو في نفسه كذلك لكنه إشارة إلى المراتب ولا بد من العبور عن جميع المراتب مع أن كونه عدواً إنما هو من حيث كونه صنماً ومبدأ علاقة فمن شاهد الله في كل شيء فقد انقطع عن الأغيار فكل عدو له صديق والحمد تعالى :
جهان مر آت حسن شاهد ماست
فشاهد وجهه في كل ذرات
٢٨٢
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٢٨٠
﴿الَّذِى خَلَقَنِى﴾ (از عدم بوجود آورد) صفة رب العالمين ﴿فَهُوَ﴾ وحده ﴿يَهْدِينِ﴾ يرشدني إلى صلاح الدارين بهدايته المتصلة من الخلق ونفخ الروح متجدد على الاستمرار كما ينبىء عنه فاء العطف التعقيبي وصيغة المضارع وذلك أن مبدأ الهداية بالنسبة إلى الإنسان هداية الجنين إلى امتصاص دم الحيض من الرحم ومنتهاها الهداية إلى طريق الجنة والتنعم بلذائذها، وأشار قوله :﴿فَهُوَ يَهْدِينِ﴾ إلى قطع الأسباب والاكتساب في النبوة والولاية والخلة بل أشار إلى الاصطفاء الأزلي وذلك أن جميع المقامات اختصاصية عطائية غير نسبية حاصلة للعين الثابتة من الفيض الأقدس وظهوره بالتدريج بحصول شرائطه وأسبابه يوهم المحجوب فيظن أنه كسبي بالتعمل وليس كذلك في الحقيقة.
قال الحافظ :
قومي بجهد وجد نهادند وصل دوست
قومي دكر حواله بتقدير مكينند
﴿وَالَّذِينَ﴾ إلخ معطوف على الصفة الأولى وتكرير الموصول في المواقع الثلاثة للدلالة على أن كل واحدة من الصلات مستقلة باقتضاء الحكم ﴿هُوَ﴾ وحده ﴿يُطْعِمُنِى﴾ أيُّ طعام شاء.
وبالفارسية :(ميخواراند مرا غدايي كه قوام أجزاء بدن منست ﴿وَيَسْقِينِ﴾ أيُّ شراب شاء.
وبالفارسية :(ومي آشاماندا مرا شرابي كه موجب تسكين عطش وسبب تربيت أضعءا) أي هو رازقي فمن عنده طعامي وشرابي وليس الإطعام والسقي عبارتين عن مجرد خلق الطعام والشراب له وتمليكهما إياه بل يدخل فيهما إعطاء جميع ما يتوقف الانتفاع بالطعام والشراب عليه كالشهوة وقت المضغ والابتلاع والهضم والدفع ونحو ذلك.
ومن دعاء أبي هريرة رضي الله عنه :"اللهم اجعل لي ضرساً طحوناً ومعدة هضوماً ودبراً بثوراً".
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٢٨٣
وأشارت الآية إلى مقام التوكل والرضى والتسليم والتفويض وقطع الأسباب والإقبال إليه بالكلية والإعراض عما سواه.
صاحب "بحر الحقائق" :(فرمودكه مراد طعام عبوديستت كه دلها بآن زنده شود وشراب طهور تجلى صفت ربوبيت كه أرواح بآن تازه باشد.
وذو النون مصري قدس سره فرمودكه اين طعام طعام معرفتست واين شراب شراب محبت واين بيت خوانده).
شراب المحبة خير الشراب
وكل شراب سواه سراب
واز فحواي كلام شمه از أسرار كلام حقائق نظام (أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني) بي تواندبرد.
ترا نوال دمادم زخانه يطعمني
ترا ياله مدام از شراب يسقيني
مراتو قبله ديني ازان سب كفتم
بمردمان كه "لكم دينكم ولي ديني"
وقد اختلف الناس في الطعام والشراب المذكورين في الحديث على قولين : أحدهما : أنه طعام وشراب حسي للفم قالوا : وهذه حقيقة اللفظ ولا يوجب العدول عنه ما قال بعضهم : كان يؤتى بطعام من الجنة.
والثاني : أن المراد به ما يغذيه الله به من معارفه وما يفيض على قلبه من لذة مناجاته وقرة عينه بقربه ونعيم محبته وتوابع ذلك من الأحوال التي هي غذاء القلوب ونعيم الأرواح وقرة الأعين وبهجة النفوس.
قال الشيخ الشهير بأفتاده افندي قدس سره : إنما أكل نبينا عليه السلام في الظاهر لأجل أمته الضعيفة وإلا فلا احتياج له إلى الأكل والشرب وما روي من أنه كان يشد الحجر على بطنه فهو ليس من الجوع بل من كمال لطافته لئلا يصعد إلى الملكوت بل يبقى في عالم الملك ويحصل له الاستقرار في عالم الإرشاد وقد حكى له
٢٨٣
بعض أمته أنه لم يأكل ولم يشرب سنين وهو أولى وأقوى في هذا الباب من أمته لقوة انجذابه إلى عالم القدس وتجرده عن غواشي البشرية وكان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم سقاء تبع النبي صلى الله عليه وسلّم ثلاثة أيام يقرأ :﴿وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الارْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا﴾ (هود : ٦) فرمى بقربته فآتاه آت في منامه بقدح من شراب الجنة فسقاه قال أنس رضي الله عنه : فعاش بعد ذلك نيفاً وعشرين سنة لم يأكل ولم يشرب على شهوة كما في "كشف الأسرار".


الصفحة التالية
Icon