قال في "التكملة" : خص البلدة بالذكر وهي مكة وإن كان رب البلاد كلها ليعرف المشركون نعمته عليهم أن الذي ينبغي لهم أن يعبدوه هو الذي حرم بلدتهم انتهى قوله : الذي نعت لرب والتحريم جعل الشيء حراماً أي ممنوعاً منه والتعرض لتحريمه تعالى إياها إجلال لها بعد إجلال ومعناه يحرمها من انتهاك حرمتها بقطع شوكها وشجرها
٣٧٧
ونباتها وتنفير صيدها وإرادة الإلحاد فيها بوجه من الوجوه وفي الحديث :"إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس" أي كان تحريمها من الله بأمر سماوي لا من الناس باجتهاد شرعي وأما قوله عليه السلام :"إن إبراهيم حرم مكة" فمعناه أظهر الحرمة الثابتة أو دعا فحرمها الله حرمة دائمة.
ومعنى الآية : قل لقومك يا محمد : أمرت من قبل الله أن أخصه وحده بالعبادة ولا أتخذ له شريكاً فاعبدوه أنتم ففيه عزكم وشرفكم ولا تتخذوا له شريكاً وقد ثبتت عليكم نعمته بتحريم بلدتكم.
قال بعضهم : العبودية لباس الأنبياء والأولياء.
﴿وَلَهُ﴾ أي : ولرب هذه البلدة خاصة.
﴿كُلِّ شَىْءٍ﴾ خلقاً وملكاً وتصرفاً لا يشاركه في شيء من ذلك أحد.
وفيه تنبيه على أن إفراد مكة بالإضافة للتفخيم مع عموم الربوبية لجميع الموجودات.
صنعش كه همه جهعان باراست
﴿وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ من الثابتين على ملة الإسلام والتوحيد أو من الذين أسلموا وجوههم خاصة.
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أن المسلم الحقيقي من يكون إسلامه في استعمال الشريعة مثل استعمال النبي عليه السلام الشريعة في الظاهر وهذا كمال العناية في حق المسلمين لأنه لو قال : وأمرت أن أكون من المؤمنين لما كان أحد يقدر على أن يكون إيمانه كإيمان النبي عليه السلام نظيره قوله تعالى :﴿وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾ (الأنعام : ١٦٣) ولهذا قال عليه السلام :"صلوا كما رأيتموني أصلي" يعني : في الظاهر ولو قال : صلوا كما أنا أصلي لما كان أحد يقدر على ذلك لأنه كان يصلي ولصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء وكان في صلاته يرى من خلفه كما يرى من أمامه.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٣٧٧
﴿وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْءَانَ﴾ التلاوة قراءة القرآن متتابعة كالدراسة والأوراد الموظفة والقراءة أعم يقال : تلاه تبعه متابعة ليس بينهما ما ليس منهما أي وأمرت بأن أواظب على تلاوته لتكشف لي حقائقه في تلاوته شيئاً فشيئاً فإنه كلما تفكر التالي العالم تجلت له معان جديدة كانت في حجب مخفية، ولذا لا يشبع العلماء الحكماء من تلاوة القرآن وهو السر في أنه كان آخر وردهم لأن المنكشف أولاً للعارفين حقائق الآفاق، ثم حقائق الأنفس ثم حقائق القرآن فعليك بتلاوة القرآن كل يوم ولا تهجره كما يفعل ذلك طلبة العلم وبعض المتصوفة زاعمين بأنهم قد اشتغلوا بما هو أهم من ذلك وهو كذب فإن القرآن مادة كل علم في الدنيا ويستحب لقارىء القرآن في المصحف أن يجهر بقراءته ويضع يده على الآية يتبعها فيأخذ اللسان حظه من الرفع ويأخذ البصر حظه من النظر واليد حظها من المس وسماع القرآن أشرف أرزاق الملائكة السياحين وأعلاها ومن لم تتيسر له تلاوة القرآن فليجلس لبث العلم لأجل الأرواح الذين غذاؤهم العلم لكن لا يتعدى علوم القرآن والطهارة الباطنة للأذنين تكون باستماع القول الحسن فإنه ثم حسن وأحسن فأعلاه حسناً ذكر الله بالقرآن فيجمع بين الحسنين فليس أعلى من سماع ذكر الله بالقرآن مثل كل آية لا يكون مدلولها إلا ذكر الله فإنه ما كل آية تتضمن ذكر الله فإن فيه حكاية الأحكام المشروعة وفيه قصص الفراعنة وحكايات أقوالهم وكفرهم وإن كان في ذلك الأجر العظيم من حيث هو قرآن بالإصغاء إلى القارىء إذا قرأ من نفسه أو غيره فعلم أن ذكر الله إذا سمع في القرآن أتم من
٣٧٨
سماع قول الكافرين في الله ما لا ينبغي كذا في "الفتوحات".
واعلم أن خلق النبي عليه السلام كان القرآن فانظر في تلاوتك إلى كل صفة مدح الله بها عباده فافعلها أو اعزم على فعلها وكل صفة ذم الله بها عباده على فعلها فاتركها أو اعزم على تركها فإن الله تعالى ما ذكر لك ذلك وأنزله في كتابه إلا لتعمل به فإذا حفظت القرآن عن تضييع العمل به كما حفظته تلاوة فأنت الرجل الكامل.
﴿فَمَنِ اهْتَدَى﴾ باتباعه إياي فيما ذكر من العبادة والإسلام وتلاوة القرآن.
﴿فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ﴾ فإن منافع اهتدائه عائدة إليه لا إلى غيره.
﴿وَمَن ضَلَّ﴾ بمخالفتي فيما ذكر﴿فَقُلْ﴾ في حقه ﴿إِنَّمَآ أَنَا مِنَ الْمُنذِرِينَ﴾ فقد خرجت من عهدة الإنذار والتخويف من عذاب الله وسخطه فليس عليّ من وباله شيء وإنما هو عليه فقط ويجوز أن يكون معنى وأن أتلو القرآن وأن أواظب على تلاوته للناس بطريق تكرير الدعوة فمعنى قوله : فمن اهتدى حينئذ فمن اهتدى بالإيمان والعمل بما فيه من الشرائع والأحكام ومن ضل بالكفر به والإعراض عن العمل بما فيه.
وهذه الآية منسوخة بآية السيف.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٣٧٧
وفي "التأويلات النجمية" : فيه إشارة إلى أن نور القرآن يربي جوهر الهداية والضلالة في معدن قلب الإنسان السعيد والشقي كما يربي ضوء الشمس الذهب والحديد في المعادن يدل عليه قوله تعالى :﴿يُضِلُّ بِه كَثِيرًا وَيَهْدِي بِه كَثِيرًا﴾ (البقرة : ٢٦) وقال عليه السلام :"الناس كمعادن الذهب والفضة" ﴿وَقُلِ الْحَمْدُ﴾ أي على ما أفاض عليّ من نعمائه التي أجلها نعمة النبوة والقرآن ﴿سَيُرِيكُمْ ءَايَاتِه فَتَعْرِفُونَهَا﴾ أي فتعرفون أنها آيات الله حين لا تنفعكم المعرفة.
وقال مقاتل : سيريكم آياته عن قريب الأيام فطوبى لمن رجع قبل وفاته والويل على من رجع بعد ذهاب الوقت.
قال الشيخ سعدي قدس سره :
كنون بايد أي خفته بيدار بود
ومرك اندر آرد زخوابت ه سود
توغافل در انديشه سود ومال
كه سرمايه عمر شد ايمال
كرت شم عقلست وتدبير كور
كنون كن كه شمت نخوردست مور
كنون كوش كاب ازكمردر كذشت
نه وقتي كه سيلاب از سر كذشت
سكندر كه برعالمي حكم داشت
دران دم بكذشت عالم كذاشت
ميسر نبودش كزو عالمي
ستانند ومهلت دهندش دمي
﴿وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ كلام مسوق من جهته تعالى مقرر لما قبله من الوعد والوعيد كما ينبىء عنه إضافة الرب إلى ضمير النبي عليه السلام وتخصيص الخطاب أولاً به وتعميمه ثانياً للكفرة تغليباً أي وما ربك بغافل عما تعمل أنت من الحسنات وما تعملون أنتم أيها الكفرة من السيئات لأن الغفلة التي هي سهو يعتري من قلة التحفظ والتيقظ لا يجوز عليه تعالى فيجازي كلاً منكم بعمله وكيف يغفل عن أعمالكم وقد خلقكم وما تعملون كما خلق الشجرة وخلق فيها ثمرتها فلا يخفى عليه حال أهل السعادة والشقاوة وإنما يمهل لحكمة لا لغفلة وإنما الغفلة لمن لا يتنبه لهذا فيعصي الله بالشرك وسيئات الأعمال وأعظم الأمراض القلبية نسيان الله ولا ريب أن علاج أمر إنما هو بضده وهو ذكر الله.
حكي : أن إبراهيم بن أدهم
٣٧٩
سر يوماً بمملكته ونعمته ثم نام فرأى رجلاً أعطاه كتاباً فإذا فيه مكتوب لا تؤثر الفاني على الباقي ولا تغتر بملكك فإن الذي أنت فيه جسيم لولا أنه عديم فسارع إلى أمر الله فإنه يقول :﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ﴾ (آل عمران : ١٣٣) فانتبه فزعاً وقال : هذا تنبيه من الله وموعظة فتاب إلى الله ورسوله بالقبول والعمل والمجانبة عن التأخر في طريق الحق والأخذ بالبطالة والكسل.
براحتي نرسيد آنكه زحمتي نكشيد
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٣٧٧


الصفحة التالية
Icon