﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا﴾ للدعوة إلى التوحيد وطريق الحق من قبل إرسالنا إياك يا محمد ﴿نُوحًا﴾ واسمه عبد الغفار كما ذكره السهيلي رحمه الله في كتاب "التعريف" والشاكر كما ذكره أبو الليث في "البستان".
وسمي نوحاً لكثرة نوحه وبكائه من خوف الله ولد بعد مضي ألف وستمائة واثنتين وأربعين سنة من هبوط آدم عليه السلام وبعث عند الأربعين.
﴿إِلَى قَوْمِهِ﴾ وهم أهل الدنيا كلها.
والفرق بين عموم رسالته وبين عموم رسالة نبينا عليه السلام أن نبينا عليه السلام مبعوث إلى من في زمانه وإلى من بعده إلى يوم القيامة بخلاف نوح فإنه مرسل إلى جميع أهل الأرض في زمانه لا بعده كما في "إنسان العيون" وهو أول نبي بعث إلى عبدة الأصنام لأن عبادة الأصنام أول ما حدثت في قومه فأرسله الله إليهم ينهاهم عن ذلك وأيضاً أول نبي بعث إلى الأقارب والأجانب وأما آدم فأول رسول الله إلى أولاده بالإيمان به وتعليم شرائعه وهو أي نوح عليه السلام أبونا الأصغر وقبره بكرك بالفتح من أرض الشام كما في "فتح الرحمن".
﴿فَلَبِثَ فِيهِمْ﴾ بعد الإرسال ولبث بالمكان أقام به ملازماً له ﴿أَلْفَ سَنَةٍ﴾ الألف العدد المخصوص سمي بذلك لكون الأعداد فيه مؤلفة فإن الأعداد أربعة آحاد وعشرات ومئون وألوف فإذا بلغ الألف فقد ائتلف وما بعده ويكون مكرراً قال بعضهم : الألف من ذلك لأنه مبدأ النظام والسنة أصلها سنهة لقولهم سانهت فلاناً أي عاملته سنة فسنة وقيل : أصلها من الواو لقولهم سنوات والهاء للوقف.
﴿إِلا خَمْسِينَ عَامًا﴾ العام كالسنة لكن كثيراً ما تستعمل السنة في الحول الذي فيه الشدة والجدب ولهذا يعبر عن الجدب بالسنة والعام فيما فيه الرخاء وفي كون المستثنى منه بالسنة والمستثنى بالعام لطيفة، وهي أن نوحاً عاش بعد إغراق قومه ستين سنة في طيب زمان وصفاء عيش وراحة بال وقيل : سمى السنة عاماً لعوم الشمس في جميع بروجها والعوم السباحة ويدل على معنى العوم قوله تعالى :
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤٥٥
﴿كُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ (يس : ٤٠).
ومعنى الآية فبث بين أظهرهم تسعمائة وخمسين عاماً يخوفهم من عذاب الله ولا يلتفتون إليه وإنما ذكر الألف تخييلاً لطول المدة إلى السامع أي ليكون أفخم في أذنه ثم أخرج منها الخمسون إيضاحاً لمجموع العدد فإن المقصود من القصة تسلية رسول الله صلى الله عليه وسلّم وتثبيته على ما يكابد من الكفرة.
يعني :(إيراد قصه نوح بجهت تسليه سيد أنام است وتثبيت بركشيدن اذى از قوم وتهديد يكزبان بذكر طوفان يعني نوح نهصد وناه سال جفاي قوم كشيد وهمنان دعوت ميفرمود وكسى نمي كرويد) إلا القليل الذين ذكرهم في قوله :﴿وَمَآ ءَامَنَ مَعَه إِلا قَلِيلٌ﴾ (هود : ٤٠) فأذن له في الدعاء فدعا عليهم بالهلاك.
﴿فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ﴾.
أي : عقيب تمام المدة المذكورة فغرق من في الدنيا كلها من الكفار.
والطوفان يطلق على كل ما يطوف بالشيء ويحيط به على كثرة وشدة وغلبة من السيل والريح والظلام والقتل والموت والطاعون والجدري والحصبة والمجاعة وقد
٤٥٥
غلب على طوفان الماء وقد طاف الماء ذلك اليوم بجميع الأرض.
﴿وَهُمْ ظَـالِمُونَ﴾ أي : والحال أنهم مستمرون على الظلم والكفر لم يستمعوا إلى داعي الحق هذه المدة المتمادية.
﴿فَأَنجَيْنَـاهُ﴾ أي نوحاً من الغرق والابتلاء بمشاق الكفرة ﴿وَأَصْحَـابَ السَّفِينَةِ﴾ أي : ومن ركب معه فيها من أولاده وأتباعه وكانوا ثمانين ذكوراً وإناثاً.
قال الكاشفي : يعني :(هركه باوي بود از مؤمنان وهره در سفينه بود از أنواع جانوران) والسفينة من سفنه يسفنه قشره ونحته كأنها تسفن الماء أي تقشره فهي فعيلة بمعنى فاعلة ﴿وَجَعَلْنَـاهَآ﴾ أي : السفينة أو القصة.
﴿لِّلْعَـالَمِينَ * وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ﴾ أي : عبرة لمن بعدهم من الأهالي يتعظون بها أو دلالة يستدلون بها على قدرة الله.
قال أبو الليث في "تفسيره" : وقد بقيت السفينة على الجودي إلى قريب من وقت خروج النبي عليه السلام وبين الطوفان والهجرة الشريفة ثلاثة آلاف وتسعمائة وأربع وسبعون سنة على ما في "فتح الرحمن" وكان ذلك علامة وعبرة لمن رآها ولمن لم يرها لأن الخبر قد بلغه.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤٥٥
وقال بعضهم : سفينة نوح أول سفينة في الدنيا فأبقيت السفن آية وعبرة للخلائق وعلامة من سفينة نوح وهو قوله تعالى :﴿وَلَقَد تَّرَكْنَـاهَآ ءَايَةً﴾ (القمر : ١٥).
روي : أن نوحاً بعث على رأس الأربعين ودعا قومه تسعمائة وخمسين عاماً وعاش بعد الطوفان ستين سنة حتى كثر الناس وفشوا وذلك من أولاده حام وسام ويافث لأنهم لما خرجوا من السفينة ماتوا كلهم إلا أولاد نوح كما في "البستان" فيكون عمره ألفاً وخمسين عاماً وهو أول الأنبياء عمراً ومن ذلك قيل له : كبير الأنبياء وشيخ المرسلين وهو أول من تنشق عنه الأرض بعد نبينا عليه السلام.