قال بعضهم : لولا أن الله أمر بمخالفة النفوس ومباينتها لاتبع الخلق أهواءهم وشهواتهم ولو فعلوا ذلك لضلوا عن طريق العبودية وتركوا أوامر الله تعالى وأعرضوا عن طاعته ولزموا مخالفته والهوى يهوي بمتابعيه إلى الهاوية.
﴿بَلْ أَتَيْنَـاهُم بِذِكْرِهِمْ﴾ انتقال من تشنيعهم بكراهة الحق الذي يقوم به العالم إلى تشنيعهم بالأعراض عما جبل عليه كل نفس من الرغبة فيما فيه خيرها والمراد بالذكر القرآن الذي فيه فخرهم وشرفهم في الدنيا والآخرة كما قال تعالى :﴿وَإِنَّه لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ﴾ (الزخرف : ٤٤) أي شرف لك ولقومك والمعنى بل آتيناهم بفخرهم وشرفهم الذي يجب عليهم أن يقبلوا عليه أكمل إقبال.
وفي "التأويلات النجمية" :﴿بَلْ أَتَيْنَـاهُم﴾ بما فيه لهم صلاح في الحال وذكر في المال ﴿فَهُمْ﴾ بسوء اختيارهم ﴿عَن ذِكْرِهِم﴾ عن صلاح حالهم وشرف مآلهم.
وفي "الإرشاد" : أي فخرهم وشرفهم خاصة ﴿مُعْرِضُونَ﴾ لا عن غير ذلك مما لا يوجب الإقبال عليه والاعتناء به.
﴿أَمْ تَسْـاَلُهُمْ﴾ انتقال من توبيخهم بما ذكر من قولهم أو يقولون به جنة
٩٥
إلى التوبيخ بوجه آخر كأنه قيل : أم يزعمون أنك تسألهم على أداء الرسالة.
﴿خَرْجًا﴾ أي : جعلاً وأجر فلأجل ذلك لا يؤمنون بك.
﴿فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ﴾ تعليل لنفي السؤال المستفاد من الإنكار أي لا تسألهم ذلك فإن رزق ربك في الدنيا وثوابه في العقبى خير لك من ذلك لسعته ودوامه ففيه استغناء لك عن عطائهم والخرج بإزاء الدخل يقال لكل ما تخرجه إلى غيرك والخراج غالب في الضريبة على الأرض ففيه إشعار بالكثرة واللزوم فيكون أبلغ ولذلك عبر به عن عطاء الله إياه.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٩٣
قال في "تفسير المناسبات" : وكأنه سماه خراجاً إشارة إلى أنه أوجب رزق كل أحد على نفسه بوعد لا خلف فيه ﴿وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾ أي خير من أعطى عوضاً على عمل لأن ما يعطيه لا ينقطع ولا يتكدر وهو تقدير لخيرية خراجه تعالى.
وفي "التأويلات النجمية" : فيه إشارة إلى أن العلماء بالله الراسخين في العلم لا يدنسون وجوه قلوبهم الناضرة بدنس الاطماع الفاسدة والصالحة الدنيوية والأخروية فيما يعاملون الله في دعوة الخلق إلى الله بالله.
زيان ميكند مرد تفسير دان
كه علم وهنر ميفر وشدبنان
قال حضرة الشيخ الأكبر قدس سره الأطهر في "الفتوحات المكية" : مذهبنا أن للواعظ أخذ الأجرة على وعظه الناس وهو من أحل ما يأكله وإن كان ترك ذلك أفضل وإيضاح ذلك أن مقام الدعوة إلى الله يقتضي الإجارة فإنه ما من نبي دعا إلى الله إلا قال : إن أجري إلا على الله فأثبت الأجر على الدعاء ولكن اختار أن يأخذه من الله لا من المخلوق انتهى.
﴿وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ تشهد العقول السلمية باستقامة لا عوج فيه يوجب اتهامهم لك ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالاخِرَةِ﴾ وصفوا بذلك تشنيعاً لهم بما هم عليه من الانهماك في الدنيا وزعمهم أن لا حياة إلا الحياة الدنيا.
﴿عَنِ الصِّرَاطِ﴾ المستقيم الذي تدعوهم إليه.
﴿لَنَـاكِبُونَ﴾ مائلون عادلون عنه فإن الإيمان بالآخرة وخوف ما فيها من الدواهي من أقوى الدواعي إلى طلب الحق وسلوك سبيله وليس لهم إيمان وخوف حتى يطلبوا الحق ويسلكوا سبيله ففي الوصف بعدم الإيمان بالآخرة إشعار بعلة الحكم أيضاً كالتشنيع المذكور.
قال أبو بكر الوراق : من لم يهتم لأمر معاده ومنقلبه وما يظهر عليه في الملأ الأعلى والمسند الأعظم فهو ضال عن طريقته غير متبع لرشده وأحسن منه حالاً من لم يهتم لما جرى له في السابقة.
ثم في الآيات إخبار أن الكفار متعنتون محجوجون من كل وجه في ترك الاتباع والاستماع إلى رسول الله عليه السلام.
قال الشيخ سعدي قدس سره.
كسى رامه ندار درسر بود
مندار هركز كه حق بشنود
زعلمش ملال آيد ازوعظ ننك
شقايق بباران نرويد زسنك
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٩٣
قيل : لما انصرف هارون الرشيد من الحج أقام بالكوفة أياماً فلما خرج وقف بهلول المجنون على طريقة وناداه بأعلى صوته يا هارون ثلاثاً فقال هارون تعجباً : من الذي يناديني فقيل له : بهلول المجنون فوقف هارون وأمر برفع الستر وكان يكلم الناس وراء الستر فقال له : أتعرفني قال : نعم أعرفك فقال : من أنا، قال : أنت الذي لو ظلم أحد في المشرق وأنت في المغرب سألك الله
٩٦