ـ حكي ـ أن رجلاً سَقَّاء بمدينة بخارى، كان يحمل الماء إلى دار صائغ مدة ثلاثين سنة وكان لذلك الصائغ زوجة صالحة في نهاية الحسن والبهاء فجاء السقاء على عادته يوماً وأخذ بيدها وعصرها فلما جاء زوجها من السوق قالت : ما فعلت اليوم خلاف رضى الله تعالى فقال : ما صنعت شيئاً فألحت عليه فقال : جاءت امرأة إلى دكاني وكان عندي سوار فوضعته في ساعدها فأعجبني بياضها فعصرتها فقالت : الله أكبر هذه حكمة خيانة السَّقاء اليوم فقال الصائغ : أيّها المرأة إني تبت فاجعليني في حل فلما كان الغد جاء السقاء وتاب وقال : يا صاحبة المنزل اجعليني في حل فإن الشيطان قد أضلني فقالت : امض فإن الخطأ لم يكن إلا من الشيخ الذي في الدكان فإنه لما غير حاله مع الله بمس الأجنبية غير الله حاله معه بمس الأجنبي زوجته ومثل ذلك من عدل الله تعالى والله تعالى غيور إذا رأى عبده فيما نهاه يؤاخذه بما يناسب حاله وفعله فإذا عرف العبد أن الحال هذا وجب عليه أن يترك الجفاء والأذى ويسلك طريق العدل والإنصاف ولا يأخذ سمت الجور والاعتساف والشقاق والخلاف ﴿وَأَسَلْنَا لَه عَيْنَ الْقِطْرِ﴾ أي : أذبنا وأجرينا لسليمان عين النحاس المذاب أساله من معدنه كما ألان الحديد لداود فنبع منه نبوع الماء من الينبوع ولذلك سمي عيناً وبالفارسية :(وجارى كرديم براى سليمان شمه مس كداخت را تا از معدن بيرون آمدى ون آب روان وازان مس هره ميخواست ميساخت وآن در موضعي بود ازيمن بقرب صنعاء).
قال في "كشف الأسرار" : لم يعمل بالنحاس قبل ذلك فكل ما في أيدي الناس من النحاس في الدنيا من تلك العين.
جزء : ٧ رقم الصفحة : ٢٥٨
يقول الفقير : يرد عليه أن في بعض البلاد معدن النحاس يلتقط جوهره منه اليوم يذاب ويعمل فكيف يكون ما في أيدي الناس مما أعطى سليمان إلا أن يقال أن أصله كان من تلك العين كما أن المياه كلها تخرج من تحت الصخرة في بيت المقدس على ما ورد في بعض الآثار ﴿وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ جملة من مبتدأ وخبر.
يعني :(ازطائفه جن است كسى كه
٢٧١
كار كردى يش سليمان) ﴿بِإِذْنِ رَبِّهِ﴾ بأمره كما ينبىء عنه قوله تعالى :﴿وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا﴾ الزيغ الميل عن الاستقامة أي : ومن يعدل من الجن ويمل عما أمرناه به من طاعة سليمان ويعصه ﴿نُذِقْهُ﴾ (بشانيم اورا) ﴿مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ﴾ أي : عذاب النار في الآخرة.
ـ وروي ـ عن السدي أنه كان معه ملك بيده سوط من نار كلما استعصى عليه الجني ضربه من حيث لا يراه ضربة أحرقته بالنار.
وفيه إشارة إلى تسخير الله لسليمان صفات الشيطنة كما قال نبينا صلى الله عليه وسلّم "إن الله سلطني على شيطاني فأسلم على يدي فلا يأمرني إلا بخير" فإذا كانت القوى الباطنة مسخرة كانت الظاهرة الصورية أيضاً مسخرة فتذهب الظلمة ويجيىء النور ويزول الكدر ويحصل السرور وهذا هو حال الكمل في النهايات.
﴿وَلِسُلَيْمَـانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌا وَأَسَلْنَا لَه عَيْنَ الْقِطْرِا وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّه وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ * يَعْمَلُونَ لَه مَا يَشَآءُ مِن مَّحَـارِيبَ وَتَمَـاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَـاتٍا اعْمَلُوا ءَالَ دَاوُادَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِىَ الشَّكُورُ﴾.
﴿يَعْمَلُونَ لَه مَا يَشَآءُ﴾ تفصيل لما ذكر من عملهم.
﴿مِن مَّحَـارِيبَ﴾ بيان لما يشاء جمع محراب.
قال في "القاموس" : المحراب الغرفة وصدر البيت وأكرم مواضعه ومقام الإمام من المسجد والموضع ينفرد به الملك فيتباعد عن الناس انتهى.
وفي "المفردات" محراب المسجد قيل : سمي بذلك لأنه موضع محاربة الشيطان والهوى أو لكون حق الإنسان فيه أن يكون حريباً أي : مسلوباً من أشغال الدنيا ومن توزع الخاطر.
وقيل : الأصل فيه أن محراب البيت صدر المجلس ثم لما اتخذت المساجد سمي صدرها به وقيل : بل المحراب أصل في المسجد وهو اسم خص به صدر المسجد وسمي صدر البيت محراباً تشبيهاً بمحراب المسجد وهذا أصح انتهى.
والمعنى من قصور حصينة ومساكن شريفة سميت بذلك لأنها يذب عنها ويحارب عليها أدرج في "تفسير الجلالين" أيضاً.
قال المفسرون : فبنت الشياطين لسليمان تدمر كتنصر وهي بلدة بالشام والأبنية العجيبة باليمن وهي صرواج ومرواج وبينون وسلحين وهيذة وهنيذة وفلتوم وغمدان ونحوها وكلها خراب الآن وعملوا له بيت المقدس في غاية الحسن والبهاء :
جزء : ٧ رقم الصفحة : ٢٥٨