وقيل للنابغة حين أسلم أصبوت يعني آمنت بمحمد قال : بلى غلبني بثلاث آيات من كتاب الله فأردت أن أقول ثلاثة أبيات من الشعر على قافيتها فلما سمعت هذه الآية تعبت فيها ولم أطق فعلمت أنه ليس من كلام البشر وهي هذه ﴿قُلْ إِنَّ رَبِّى يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ﴾ (سبأ : ٤٨) إلى قوله :﴿إِنَّه سَمِيعٌ قَرِيبٌ﴾ (سبأ : ٠٥).
﴿قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَآ أَضِلُّ عَلَى نَفْسِى وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِى إِلَىَّ رَبِّى إِنَّه سَمِيعٌ قَرِيبٌ * وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ * وَقَالُوا ءَامَنَّا بِه وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَّكَانا بَعِيدٍ﴾.
﴿وَلَوْ تَرَى﴾ يا محمد أو يا من يفهم الخطاب ويليق به ﴿إِذْ فَزِعُوا﴾ أي : حين يفزع الكفار ويخافون عند الموت أو البعث أو يوم بدر وجواب لو محذوف أي : لرأيت أمراً هائلاً وجيء بالماضي لأن المستقبل بالنسبة إلى الله تعالى كالماضي في تحققه وعن ابن عباس رضي الله عنه
٣٠٩
عنهما أن ثمانين ألفاً وهم السفياني وقومه يخرجون في آخر الزمان فيقصدون الكعبة ليخربوها فإذا دخلوا البيداء وهي أرض ملساء بين الحرمين كما في "القاموس" خسف بهم فلا ينجو منهم إلا السريّ الذي يخبر عنهم وهو جهينة فلذلك قيل عند جهينة الخبر اليقين.
قال الكاشفي :(ازتمام لشكر دوكس نجات يابند يكى به بشارت بمكه برود وديكرى كه ناجى جهنى كويند روى او بر قفا كشته خبر قوم بسفياني رساند) ﴿فَلا فَوْتَ﴾ الفوت بعد الشيء عن الإنسان بحيث يتعذر إدراكه أي : فلا فوت لهم من عذاب الله ولا نجاة بهرب أو تحصن ويدركهم ما فزعوا منه ﴿وَأُخِذُوا مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ﴾ أي : من ظهر الأرض إلى بطنها أو من الموقف إلى النار أو من صحراء بدر إلى قليبها وهو البئر أن تبنى بالحجارة.
وقال أبو عبيدة : هي البئر العادية القديمة أو من تحت أقدامهم إذا خسف بهم وحيث كانوا فهم قريب من الله والجملة معطوفة على فزعوا.
﴿وَقَالُوا﴾ وعند معاينة العذاب ﴿بِه إِنَّهُ﴾ أي : بمحمد عليه السلام لأنه مر ذكره في قوله :﴿مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ﴾ فلا يلزم الإضمار قبل الذكر ﴿وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ﴾ التناوش بالواو التناول السهل بالفارسية (كرفتن) من النوش يقال تناوش وتناول إذا مديده إلى شيء يصل إليه ومن همزه فأما أنه أبدل من الواو همزة لانضمامه نحو اقتت في وقتت وادؤر في أدور وإما أن يكون من النأش وهو الطلب كما في "المفردات" والمعنى ومن أين لهم أن يتناولوا الإيمان تناولاً سهلاً ﴿مِن مَّكَانا بَعِيدٍ﴾ فإن الإيمان إنما هو في حيز التكليف وهي الدنيا وقد بعد عنهم بارتحالهم إلى الآخرة وهو تمثيل حالهم في الاستخلاص بالإيمان بعد ما فات عنهم وبعد بحال من يريد أن يتناول الشيء من غلوة وهي غاية قدر رمية كتناوله من مقدار ذراع في الاستحالة.
جزء : ٧ رقم الصفحة : ٢٥٨
﴿وَقَالُوا ءَامَنَّا بِه وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَّكَانا بَعِيدٍ * وَقَدْ كَفَرُوا بِه مِن قَبْلُا وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِن مَّكَانا بَعِيدٍ * وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم﴾.
﴿وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ﴾ أي : بمحمد أو بالعذاب الشديد الذي أنذرهم إياه ﴿مِن قَبْلُ﴾ من قبل ذلك في وقت التكليف تابوا وقد أغلقت الأبواب وندموا وقد تقطعت الأسباب فليس إلا الخسران والندم والعذاب والألم :
فخل سبيل العين بعدك للبكا
فليس لأيام الصفاء رجوع
قال الحافظ :
وبر روى زمين باشى توانايى غنيمت دان
كه دوران ناتوانيها بسى زير زمين دارد
أي لا يقدر الإنسان على شيء إذا مات وصار إلى تحت الأرض كما كان يقدر إذا كان فوق الأرض وهو حي ﴿وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ﴾ الباء للتعدية أي : يرجمون بالظن الكاذب ويتكلمون بما لم يظهر لهم في حق الرسول من المطاعن أو في العذاب من قطع القول بنفسه كما قالوا وما نحن بمعذبين ﴿مِن مَّكَانا بَعِيدٍ﴾ من جهة بعيدة من حاله عليه السلام حيث ينسبونه إلى الشعر والسحر والكهانة والكذب ولعله تمثيل لحالهم في ذلك بحال من يرمي شيئاً لا يراه من مكان بعيد لا مجال للظن في لحوقه وهو معطوف على وقد كفروا به على حكاية الحال الماضية أو على قالوا فيكون تمثيلاً لحالهم بحال القاذف في تحصيل ما ضيعوه من الإيمان في الدنيا.
﴿وَحِيلَ بَيْنَهُمْ﴾ أي : أوقعت الحيلولة والمنع بين هؤلاء الكفار ﴿وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ﴾ من نفع الإيمان والنجاة من النار ﴿كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ﴾ أي : بأشياعهم من كفرة الأمم الماضية ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا﴾
٣١٠
في الدنيا ﴿فِى شَكٍّ﴾ مما وجب به الإيمان واليقين كالتوحيد والبعث ونزول العذاب على تقدير الإصرار ﴿مُرِيبٍ﴾ (بتهمت افكنده ودلرا مضطرب سازنده وشوراننده).
قال أهل التفسير مريب موقع لهم في الريبة والتهمة من أرابه إذا أوقعه في الريبة أو ذي ريبة من أراب الرجل إذا صار ذا ريبة ودخل فيها وكلاهما مجاز في الإسناد إلا أن بينهما فرقاً وهو أن المريب من الأول منقول ممن يصلح أن يكون مريباً من الأشخاص والأعيان إلى المعنى وهو الشك أي : يكون صفة من أوقع في الريب حقيقة وقد جعل في الآية صفة نفس الشك الذي هو معنى من المعاني.
والمريب من الثاني منقول من صاحب الشك إلى الشك أي : أنهم كانوا في شك ذي شك كما تقول شعر شاعر وإنما الشاعر في الحقيقة صاحب الشعر وإنما أسند الشاعرية إلى الشعر للمبالغة وإذا كان حال الكفرة الشك في الدنيا فلا ينفعهم اليقين في الآخرة لأنه حاصل بعد معاينة العذاب والخروج من موطن التكليف وقد ذموا في هذه الآيات بالشك والكفر والرجم بالغيب فليس للمرء أن يبادر إلى إنكار شيء إلا بعد العلم إما بالدليل أو بالشهود.
قال في "الفتوحات المكية" : لا يجوز لأحد المبادرة إلى الإنكار إذا رأى رجلاً ينظر إلى امرأة في الطريق مثلاً فربما يكون قاصداً خطبتها أو طبيباً فلا ينبغي المبادرة للإنكار إلا فيما لا يتطرق إليه احتمال وهذا يغلط فيه كثير من المذنبين لا من أصحاب الدين لأن صاحب الدين أول ما يحتفظ على نفسه ولا سيما في الإنكار خاصة وقد ندبنا الحق إلى حسن الظن بالناس لا إلى سوء الظن فصاحب الدين لا ينكر قط مع الظن لأنه يعلم أن بعض الظن إثم ويقول لعل هذا من ذلك البعض وإثمه أن ينطق به وإن وافق العلم في نفس الأمر وذلك أنه ظن وما علم فنطق فيه بأمر محتمل وما كان له ذلك فمعلوم أن سوء الظن بنفس الإنسان أولى من سوء ظنه بالغير وذلك لأنه من نفسه على بصيرة وليس هو من غيره على بصيرة فلا يقال في حقه إن فلاناً أساء الظن بنفسه بل إنه عالم بنفسه وإنما عبرنا بسوء الظن بنفسه اتباعاً لتعبيرنا بسوء الظن بغيره فهو من تناسب الكلام وإلى الآن ما رأيت أحداً من العلماء استبرأ لدينه هذا الاستبراء فالحمدالذي وفقنا لاستعماله انتهى كلام الشيخ في الفتوحات :
هميشه در صدد عيب جوئى خويشيم
نبوده ايم ى عيب ديكران هركز
والله الموفق لصالحات الأَمال وحسنات الأخلاق :
جزء : ٧ رقم الصفحة : ٢٥٨


الصفحة التالية
Icon