وحكى ابن عطية في "تفسيره" عن أبيه : أنه سمع أبا الفضل بن الجوهري على المنبر يقول : وقد سئل أن يتكلم في شيء من فضائل الصحابة رضي الله عنهم، فأطرق قليلاً ثم رفع رأسه، فقال :()
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه
فكل قرين بالمقارن يقتدي
ماذا ترون من قوم قرنهم الله تعالى بنبيه وخصهم بمشاهدته وتلقي الروح.
وقد أثنى الله على رجل مؤمن من آل فرعون كتم إيمانه وأسره فجعله في كتابه، وأثبت ذكره في المصاحف لكلام قاله في مجلس من مجالس الكفر، وأين هو من عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذ جرد سيفه بمكة.
وقال : والله لا أعبد الله سراً بعد اليوم، فكان ما كان من ظهور الدين بسيفه ثم أخذهم الرجل المؤمن بالاحتجاج من باب الاحتياط بإيراده في صورة الاحتمال من الظن
١٧٧
بعد القطع بكون قتله منكراً، فقال :﴿وَإِن يَكُ كَـاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ﴾ لا يتخطاه وبال كذبه وضرره، فيحتاح في دفعه إلى قتله، يعني : أن الكاذب إنما يقتل إذا تعدى ضرر كذبه إلى غيره كالزنديق الذي يدعو الناس والمبتدع الذي يدعو الناس إلى بدعته.
وهذا لا يقدر على أن يحمل الناس على قبول ما أظهره من الدين لكون طباع الناس آبية عن قبوله ولقدرتكم على منعه من إظهار مقالته ودينه.
﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ﴾ في قوله : فكذبتموه وقصدتم له بسوء، ﴿يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِى يَعِدُكُمْ﴾ ؛ أي : إن لم يصبكم كله، فلا أقل من إصابة بعضه.
وفي بعض ذلك كفاية لهلاكهم، فذكر البعض ليوجب الكل، لا أن البعض هو الكل، وهذا كلام، وهذا صادر عن غاية الإنصاف وعدم التعصب، ولذلك قدم من شقي الترديد كونه كاذباً وصرح بإصابة البعض دون الجميع مع أن الرسول صادق في جميع ما يقوله : وإنما الذي يصيب بعض ما يعده دون بعض هم الكهان والمنجمون، ويجوز أن يكون المعنى : يصيبكم ما يعدكم من عذاب الدنيا، وهو بعض ما يعدهم ؛ لأنه كان يتوعدهم بعذاب الدنيا والآخرة ؛ كأنه خوفهم بما هو ظهر احتمالاً عندهم.
وفي "عين المعاني" : لأنه وعد النجاة بالإيمان والهلاك بالكفر، وقد يكون البعض بمعنى الكل كما في قوله :()
قد يدرك المتأني بعض حاجته
وقد يكون مع المستعجل الزلل
وقوله تعالى :﴿وَلابَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِى تَخْتَلِفُونَ فِيهِ﴾ (الزخرف : ٦٣) ؛ أي : جميعه.
وفي قوله تعالى :﴿يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ﴾ (المائدة : ٤٩) ؛ أي : بكلها كما في "كشف الأسرار".
وقال أبو الليث : بعض هنا صلة يريد يصبكم الذي يعدكم.
﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِى مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ﴾، وهو الذي يتجاوز الحد في المعصية، أو هو السفاك للدم بغير حق.
﴿كَذَّابٌ﴾، وهو الذي يكذب مرة بعد أخرى.
وقيل : كذاب على الله ؛ لأن الكذب عليه ليس كالكذب على غيره، وهو احتجاج آخر ذو وجهين :
جزء : ٨ رقم الصفحة : ١٤٨
أحدهما : أنه لو كان مسرفاً كذاباً، لما هداه الله تعالى إلى البينات، ولما أيده بتلك المعجزات.
وثانيهما : أنه إن كان كذلك خذله الله وأهلكه، فلا حاجة لكم إلى قتله، ولعله أراهم وهو عاكف على المعنى الأول لتلين شكيمتهم.
وقد عرض به لفرعون ؛ لأنه مسرف حيث قتل الأبناء بلا جرم كذاب حيث ادعى الألوهية لا يهديه الله سبيل الصواب ومنهاج النجاة، بل يفضحه ويهدم أمره.
﴿وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَـانَه أَتَقْتُلُونَ رَجُلا أَن يَقُولَ رَبِّىَ اللَّهُ وَقَدْ جَآءَكُم بِالْبَيِّنَـاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَـاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُه وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِى يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِى مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ * يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَـاهِرِينَ فِى الارْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِنا بَأْسِ اللَّهِ إِن جَآءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَآ أُرِيكُمْ إِلا مَآ أَرَى وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلا سَبِيلَ الرَّشَادِ * وَقَالَ الَّذِى ءَامَنَ يا قَوْمِ إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الاحْزَابِ﴾.
﴿قَوْمُ﴾ ؛ أي : كروه من ﴿لَكُمُ الْمُلْكُ﴾ والسلطنة ﴿الْيَوْمَ﴾ : حال كونكم ﴿ظَـاهِرِينَ﴾ غالبين عالين على بني إسرائيل، والعامل في الحال.
وفي قوله : اليوم ما تعلق به لكم.
﴿فِى الأرْضِ﴾ ؛ أي : أرض مصر لا يقاومكم أحد في هذا الوقت.
﴿فَمَن﴾ :(بس كيست كه).
﴿يَنصُرُنَا مِنا بَأْسِ اللَّهِ﴾ من أخذه وعذابه.
﴿إِن جَآءَنَا﴾ ؛ أي : فلا تفسدوا أمركم ولا تتعرضوا لبأس الله بقتله، فإنه إن جاءنا لم يمنعنا منه أحد وإنما نسب ما يسرهم من الملك والظهور في الأرض إليهم خاصة ونظم نفسه في سلكهم فيما يسوءهم من مجيء بأس الله تطميناً لقلوبهم وإيذاناً بأنه مناصح لهم ساععٍ في تحصيل ما يجديهم ودفع ما يرديهم سعيه في حق نفسه ليتأثروا بنصحه.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ١٤٨


الصفحة التالية
Icon