وتكرير ذم المجادلة في أربعة مواضع في هذه السورة، إما لتعدد المجادل بأن يكون في أقوام مختلفة، أو المجادل بأن يكون في آيات مختلفة، أو للتأكيد.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ١٤٨
﴿الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَـابِ﴾ ؛ أي : بكل القرآن.
والجملة في محل الجر على أنها بدل من الموصول.
قال في "الإرشاد" : إنما وصل الموصول الثاني، بالتكذيب دون المجادلة ؛ لأن المعتاد وقوع المجادلة في بعض المواد لا في الكل وصيغة الماضي للدلالة على التحقق كما أن صيغة المضارع في الصلة الأولى للدلالة على تجدد المجادلة وتكررها.
﴿وَبِمَآ أَرْسَلْنَا بِه رُسُلَنَا﴾ من سائر الكتب.
﴿فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ كنه ما فعلوا من الجدال والتكذيب عند مشاهدتهم لعقوباته، وهي جملة مستأنفة مسوقة للتهديد.
﴿الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَـابِ وَبِمَآ أَرْسَلْنَا بِه رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * إِذِ الاغْلَـالُ فِى أَعْنَـاقِهِمْ وَالسَّلَـاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِى الْحَمِيمِ ثُمَّ فِى النَّارِ يُسْجَرُونَ * ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ * مِن دُونِ اللَّه قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَل لَّمْ نَكُن﴾.
﴿إِذِ الاغْلَـالُ فِى أَعْنَـاقِهِمْ﴾ : ظرف ليعلمون، وهو اسم للزمن الماضي ويعلمون مستقبل لفظاً، ومعنى : وأما المكان، فظاهر مثل قولك : سوف أصوم أمس، وذا لا يجوز.
وجوابه : إن وقت العلم مستقبل تحقيقاً وماضضٍ تنزيلاً وتأويلاً ؛ لأن ما سيعلمونه يوم القيامة ؛ فكأنهم علموه في الزمن الماضي لتحقق وقوعه، فسوف بالنظر إلى الاستقبال التحقيقي وإذ بالنظر إلى المضي التأويلي.
والأغلال : جمع غلّ
٢١٠
بالضم، وهو ما يقيد به، فيجعل الأعضاء وسطه.
وغل فلان : قيد به ؛ أي : وضع في عنقه، أو يده الغل والأعناق جمع عنق وبالفارسية :(كردن).
والمعنى : على ما في "كشف الأسرار" :(آنكاه كه غلها كه دردستهاى ايشان كرد كدرنهاى ايشان كنند).
يعني : تغل أيديهم إلى أعناقهم مضمومة إليها.
﴿وَالسَّلَـاسِلُ﴾ : عطف على الأغلال والجار في نية التأخير، وهو جمع سلسلة بالكسر.
بالفارسية :(زنجير).
وذلك لأن السلسلة بالفتح : إيصال الشيء بالشيء، ولما كان في السلسلة بالكسر : إيصال بعض الخلق بالبعض سميت بها.
﴿يُسْحَبُونَ * فِى الْحَمِيمِ﴾ : السحب : الجر بعنف، ومنه السحاب ؛ لأن الريح تجره وسحبه كمنعه، جره على وجه الأرض، فانسحب.
والحميم : الماء الذي تناهى حره.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ١٤٨
قال في "القاموس" : الحميم الماء الحار والماء البارد ضد.
والقيظ : والعرق ؛ أي : على التشبيه كما في "المفردات".
والجملة حال من فاعل يعلمون، أو من ضمير أعناقهم ؛ أي : حال كونهم مسحوبين ؛ أي : مجرورين تجرهم على وجوههم خزنة جهنم بالسلاسل إلى الحميم ؛ أي : الماء المسخن بنار جهنم، ولا يكون إلا شديد الحرارة جداً ؛ لأن ما سخن بنار الدنيا التي هي جزء واحد من سبعين جزءاً من نار جهنم إذا كان لا يطاق، فكيف ما يسخن بنار جهنم.
وفي كلمة في إشعار بإحاطة حرارة الماء الجميع جوانبهم كالظرف للمظروف، حتى كأنهم في عين الحميم ويسحبون فيها.
وقال مقاتل : يسحبون في الحميم ؛ أي : في حر النار كما في قوله تعالى :﴿يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِى النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ﴾ (القمر : ٤٨).
والظاهر أن معنى يسحبون في النار ؛ أي : يجرون إلى النار على وجوههم كما في هذا المقام.
حكي : أنه توفيت النوار امرأة الفرزدق، فخرج في جنازتها وجوه أهل البصرة، وخرج فيها الحسن البصري.
فقال الحسن للفرزدق : يا أبا فراس ما أعددت لهذا اليوم قال : شهادة أن لا إله إلا الله منذ ثمانين سنة، فلما دفنت قام الفرزدق على قبرها، وأنشد هذه الأبيات :()
أخاف وراء القبر إن لم يعافني
أشد من القبرالتهاباً وأضيقا
إذ جاءني يوم القيامة قائد
عنيف وسواق يسوق فرزدقا
لقد خاب من أولاد آدم من مشى
إلى النار مغلول القلادة أزرقا
فبكى وأبكى الحاضرين.
﴿ثُمَّ﴾ ؛ أي : بعد الجر بالسلاسل إلى الحميم.
﴿فِى النَّارِ يُسْجَرُونَ﴾ : يحرقون بالنار، وهي محيطة بهم من سجر التنور إذا ملأه بالوقود، ومن كانوا في النار، وكانت هي محيطة بهم وصارت أجوافهم مملوءة بها لزم أن يحرقوا بها على أبلغ الوجوه، فهم يملؤون بالنار كائنين فيها ويحرقون.
والمراد : بيان أنهم يعذبون بأنواع العذاب، وينقلون من لون إلى لون.
قال في "كشف الأسرار" :(عذاب دوزخيان انوا عست يكى ازآن سلاسل است دردست زبانيه زنجيرهاى آتشين كه دوز خيانرا بدان ببندند هر زنجيرى هفتاد كز هر كزى هفتاد حلقه اكريك حلقه آن بركوههاى دنيا نهند جون از زير بكذارد آن زنجيرها بدن كافران فرو كنند وبزيرش بيرون كشد زنجير ايشانرا در حميم كشند حميم آب كرمست جوشان اكريك قدح ازآن بدرياهاى دنيا فرو ريزند همه زهر شود قدحى ازآن بدست كافران دهند هرجه برورى ويست ازبوست وكوست وجشم وبينى همه اندران قدح افتد اينست
٢١١