﴿لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ﴾ ؛ أي : تغلبونه على قراءته، فيترك القراءة، ولا يتمكن السامع أيضاً من سماعه أرادوا بذلك التلبيس والتشويش الأذية.
وأيضاً : خافوا من أنه لو سمعه الناس لآمنوا به.
وكان ذلك غالباً شأن أبي جهل وأصحابه.
وفيه إشارة إلى أن من شأن النفوس المتمردة إنشاء اللغو والباطل، وحديث النفس على الدوام اشتغالاً للقلوب بها عن استماع الإلهامات الربانية لعلها تغلب عليها، ولم تعلم أن من استغرق في سماع أسرار الغيب، فليس له عما سوى الله خبر، ولا لحديث النفس فيه أثر.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢٢٥
﴿فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ ؛ أي : فوالله لنذيقن هؤلاء القائلين واللاعنين، أو جميع الكفرة، وهم داخلون فيهم دخولاً أولياً.
﴿عَذَابًا شَدِيدًا﴾، لا يقادر قدره كما دل التنكير والوصف، وهذا تهديد شديد ؛ لأن لفظ الذوق إنما يذكر في القدر القليل يؤتى به ؛ لأجل التجربة.
وإذا كان ذلك الذوق، وهو قدر قليل عذاباً شديداً، فقس عليه ما بعده.
وفيه إشارة إلى أن الله تعالى إذا تجلى للقلوب احترقت النفوس بالفناء عن أوصافها، وهو عذابها، فكانت كأهل الجزية والخراج في أرض الإسلام، فكما كان أهل الإيمان في سلامة من أذاهم، فكذا القلوب مع النفوس إذ لا كفر واعتراض مع الإيمان والتسليم.
﴿وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِى كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ ؛ أي : جزاء سيئات أعمالهم التي هي في أنفسها أسوأ، فإذا كانت أعمالهم أسوأ كان جزاؤها كذلك، فالأسوأ قصد به الزيادة المطلقة، وإنما أضيف إلى ما عملوا للبيان، والتخصيص.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : عذاباً شديداً يوم بدر وأسوأ الذي كانوا يعملون في الآخرة.
﴿ذَالِكَ﴾ المذكور من الجزاء، وهو مبتدأ
٢٥٢
خبره قوله :﴿جَزَآءُ أَعْدَآءِ اللَّهِ﴾ ؛ أي : جزاء معد لأعدائه ﴿النَّارِ﴾ عطف بيان للجزاء، أو ذلك خبر مبتدأ محذوف ؛ أي : الأمر ذلك على أنه عبارة عن مضمون الجملة لا عن الجزاء وما بعده جملة مستقلة مبنية لما قبلها، والنار مبتدأ خبره.
قوله :﴿لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ﴾ ؛ أي : هي بعينها دار إقامتهم لا انتقال لهم.
منها : على أن في للتجريد لا للظرفية، وهو أن ينتزع من أمر ذي صفة أمر آخر مثله مبالغة لكماله فيها، كما يقال في البيضة عشرون منا من حديد.
وقيل : هي على معناها ؛ أي : للظرفية.
والمراد : أن لهم في النار المشتملة على الدركات دار مخصوصة هم فيها خالدون.
﴿ذَالِكَ جَزَآءُ أَعْدَآءِ اللَّهِ النَّارُ﴾ : منصوب بفعل مقدر ؛ أي : يجزون جزاء.
والباء الأولى متعلقة بجزاء.
والثانية بيجحدون.
وقدمت عليه لمراعاة الفواصل ؛ أي : بسبب ما كانوا يجحدون بآياتنا الحقة أو يلغون فيها وذكر الجحود لكونه سبباً للغو.
﴿ذَالِكَ جَزَآءُ أَعْدَآءِ اللَّهِ النَّارُا لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِا جَزَآءَا بِمَا كَانُوا بآياتنا يَجْحَدُونَ * وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَآ أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلانَا مِنَ الْجِنِّ وَالانسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا﴾.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢٢٥
﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ : وهم متقلبون فيما ذكر من العذاب.
﴿رَبَّنَآ أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلانَا مِنَ الْجِنِّ وَالانسِ﴾ ؛ أي : أرنا الشيطانين اللذين حملانا على الضلال بالتسويل والتزيين من نوعي الجن والإنس ؛ لأن الشيطان بين جني وإنسي بدليل قوله : شياطين الإنس والجن.
وقوله : من الجنة والناس.
ويقال : أحدهما قابيل بن آدم سنّ القتل بغير حق، والذي من الجن إبليس سن الكفر والشرك، فيكون معنى أضلانا : سنا لنا الكفر والمعصية كما في "عين المعاني".
ويشهد لهذا القول الحديث المرفوع "ما من مسلم يقتل ظلماً إلا كان على ابن آدم كفل من دمه ؛ لأنه أول من سن القتل".
أخرجه الترمذي.
ويروى أن قابيل شدت ساقاه بفخذيه يدور مع الشمس حيث دارت يكون في الشتاء في حظيرة ثلج.
وفي الصيف في حظيرة نار.
﴿نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا﴾ ؛ أي : ندسهما انتقاماً منهما ﴿لِيَكُونَا مِنَ الاسْفَلِينَ﴾ ؛ أي : ذلاً ومهانة، أو نجعلهما في الدرك الأسفل من النار تشفياً منهما بذلك، ليكونا من الأسفلين مكاناً وأشد عذاباً منا.
وفي الآية إشارة إلى أن النفوس إذا فنيت عن أوصافها بنار أنوار التجلي وذاقت حلاوة القرب تلتمس من ربها إطلاعها على بقايا الأوصاف الشيطانية والحيوانية التي جبلت النفوس عليها ليمكنها منها، فتجعلها تحت أقدام همتها بإفنائها، فتعلو بها إلى مقامات القرب ليكونا من الأسفلين، وتكون من الأعلون.
وهذا إنما يكون في الترقي من مقام إلى مقام إذ بقية المقام الأدنى لا تزول إلا بالترقي إلى المقام الأعلى.
وهكذا إلى نهاية المقامات فعلى العبد أن يجتهد، حتى يخرج من الدنيا مع فناء النفس لا مع بقائها ؛ فإنه إذا خرج منها بالفناء خلص من الجزع وإلا وقع فيه كما وقع الكفرة، ولا فائدة في الجزع يوم القيامة.


الصفحة التالية
Icon