﴿إِلا صَيْحَةً واحِدَةً﴾ : هي النفخة الثانية ؛ أي : ليس بينهم وبين حلول ما أعد لهم من العقاب الفظيع إلا هي حيث أخرت عقوبتهم إلى الآخرة لما أن تعذيبهم بالاستئصال حسبما يستحقونه.
والنبي عليه السلام بين أظهرهم خارج عن السنة الإلهية المبنية على الحكم الباهرة كما نطق به قوله تعالى :﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ﴾ (الأنفال : ٣٣).
ثم إن الانتظار يحتمل أن يكون حقيقة أو استهزاء فهم، وإن كانوا ليسوا بمنتظرين لأن تأتيهم الصيحة إلا أنهم جعلوا منتظرين لها تنبيهاً على قربها منهم، فإن الرجل إنما ينتظر الشيء، ويمدّ طرفه إليه مترقباً في كل آن حضوره إذا كان الشيء في غاية القرب منه.
﴿مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ﴾ ؛ أي : ما للصيحة من توقف مقدار فواق، ففيه تقدير مضاف هو صفة لموصوف مقدر.
والفواق : بالضم كغراب ويفتح كما في "القاموس" ما بين حلبتي الحالب من الوقت ؛ لأن الناقة تحلب ثم تترك سويعة يرضعها الفصيل لإدرار اللبن ثم تحلب ثانية، يعني : إذا جاء وقت الصيحة لم تستأخر هذا القدر من الزمان كقوله تعالى :﴿فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً﴾ (الأعراف : ٣٤) : وهو عبارة عن الزمان اليسير.
وفي الحديث :"من اعتكف قدر فواق فكأنما أعتق رقبة من ولد إسماعيل".
وفي الحديث :"من قاتل في سبيل الله فواق ناقة وجبت له الجنة".
وفي الآيتين إشارة إلى تسلية قلب النبي عليه السلام وتصفيته عن الاهتمام بكفار مكة لئلا يضيق قلبه من تكذيبهم ولا يحزن عليهم لكفرهم فإن هؤلاء الأحزاب كذبوا الرسل كما كذبه قومه وكانوا أقوياء متكثرين عدداً وقومه جنداً قليلاً من تلك المتحزبين ثم إنهم كانوا مظهر القهر وحطب نار الغضب ما أغنى عنهم جمعهم وقوتهم أبداناً وكثرتهم أسباباً، فكذا حال قريش فانتظارهم أيضاً أثر من آثار القهر الإلهي، ونار من نيران الغضب القهاري.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢
﴿وَقَالُوا﴾ : بطريق الاستهزاء والسخرية عند سماعهم بتأخير عقابهم إلى الآخرة، والقائل النضر بن الحرث بن علقمة بن كندة الخزاعي وأضرابه، وكان النضر من شياطينهم ونزل في شأنه في القرآن بضع عشرة آية وهو الذي قال :﴿فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَآءِ﴾ (الأنفال : ٣٢).
﴿رَبَّنَا﴾ : وتصدير دعائهم بالنداء للإمعان في الاستهزاء كأنهم يدعون ذلك بكمال الرغبة والابتهال.
﴿عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ﴾ : القط : القطعة من الشيء من قطه إذا قطعه.
والمراد هنا : القسط والنصيب ؛ لأنه قطعة من الشيء مفرزة.
قال الراغب : أصل القط : الشيء المقطوع عرضاً كما أن القدّ هو المقطوع طولاً.
والقط : النصيب المفروض كأنه قط، وأفرز.
وقد فسر ابن عباس رضي الله عنهما الآية به.
انتهى.
فالمعنى : عجل لنا قسطنا وحظنا من العذاب الذي توعدنا به محمد ولا تؤخره إلى يوم الحساب الذي مبدأه الصيحة المذكورة.
ويقال لصحيفة
١٠
الجائزة أيضاً قط ؛ لأنها قطعة من القرطاس.
فالمعنى : عجل لنا صحيفة أعمالنا لننظر فيها.
قال سهل بن عبد الله التستري ـ رحمه الله ـ ـ : لا يتمنى الموت إلا ثلاثة : رجل جاهل بما بعد الموت، أو رجل يفر من أقدار الله عليه، أو مشتاق محب لقاء الله.
وفيه إشارة إلى أن النفوس الخبيثة السفلية يميل طبعها إلى السفليات، وهي في الدنيا لذائد الشهوات الحيوانية.
وفي الآخرة دركات أسفل سافلين جهنم كما أن القلوب العلوية اللطيفة يميل طبعها إلى العلويات، وهي في الدنيا حلاوة الطاعة ولذاذة القربات.
وفي الآخرة درجات أعلى عليين الجنات، وكما أن الأرواح القدسية تشتاق بخصوصيتها إلى شواهد ومشاهدات أنوار الجمال والجلال ولكل من هؤلاء الأصناف جذبة بالخاصية جاذبة بلا اختيار كجذبة المغناطيس للحديد وميلان طبع الحديد إلى المغناطيس من غير اختيار بل اضطرار كذا في "التأويلات النجمية" : وفي "المثنوي".
ذره ذره كاندرين ارض وسماست
جنس خودرا همجوكاه وكهرباست
﴿اصْبِرْ﴾ : يا محمد.
﴿عَلَى مَا يَقُولُونَ﴾ ؛ أي : ما يقوله كفار قريش من المقالات الباطلة التي من جملتها قولهم في تعجيل العذاب ربنا عجل لنا إلخ.
فعن قريب سينزل الله نصرك ويعطيهم سؤلهم.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢
قال شاه الكرماني : الصبر ثلاثة أشياء ترك الشكوى وصدق الرضا وقبول القضاء بحلاوة القلب.
قال البقلي : كان خاطر النبي عليه السلام أرق من ماء السماء بل ألطف من نور العرش والكرسي من كثرة ما ورد عليه من نور الحق فلكمال جلاله في المعرفة كان لا يحتمل مقالة المنكرين وسخرية المستهزئين، لا أنه لم يكن صابراً في مقام العبودية.
﴿وَاذْكُرْ﴾ : من الذكر القلبي ؛ أي : وتذكر.
﴿عَبْدَنَآ﴾ : المخصوص بعنايتنا القديمة.
﴿دَاوُادُ﴾ : ابن إيشا من سبط يهودا بن يعقوب عليه السلام بينه وبين موسى عليه السلام خمسمائة وتسع وستون سنة.
وقام بشريعة موسى وعاش مائة سنة.