﴿الْحَمْدُ﴾ حيث خصمهم كما قال مقاتل ؛ أي : قطعهم بالخصومة وغلبهم، وأظهر الحجة عليهم ببيان عدم الاستواء بطريق ضرب المثل.
﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ﴾ إضراب وانتقال من بيان عدم الاستواء على الوجه المذكور إلى بيان أن أكثر الناس وهم المشركون لا يعلمون بذلك مع كمال ظهوره، فيبقون في ورطة الشرك والضلال من فرط جهلهم.
وفي الآية إشارة إلى بيان عدم الاستواء بين الذي يتجاذبه شغل الدنيا وشغل العيال وغير ذلك من الأشياء المختلفة، والخواطر المتفرقة، وبين الذي هو خالصليس للخلق فيه نصيب ولا الدنيا نسيب، وهو من الآخرة غريب وإلى الله قريب منيب.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٦٨
والحاصل : أن الراغب في الدنيا شغلته أمور مختلفة، فلا يتفرغ لعبادة ربه، وإذا كان في العبادة يكون قلبه مشغولاً بالدنيا.
والزاهد : قد تفرغ من جميع أشغال الدنيا، فهو يعبد ربه خوفاً وطمعاً.
والعارف : قد تفرغ من الكونين، فهو يعبد ربه شوقاً إلى لقائه، فلا استواء بين البطالين والطالبين وبين المنقطعين والواصلين الحمد، يعني الثناء له، وهو مستحق لصفات الجلال، بل أكثرهم لا يعلمون كمال جماله، ولا يطلعون على حسن استعدادهم بمرآتية صفات جماله وجلاله، وإلا لعطلوا الأمور الدنيوية بأسرها وخربت الدنيا التي هي مزرعة الآخرة.
وفي المثنوي :
استن اين عالم اي جان غفلتست
هو شيارى اين جهانرا آفتست
هو شيارى زان جهانست وجو آن
غالب آيد بست كردد اين جهان
هو شيارى آفتاب وحرص يخ
هو شيارى آب واين عالم وسخ
زان جهان اندك ترشح مى رسد
تانلغزد در جهان حرص وحسد
كر ترشح بيشتر كردد زغيب
نى هنر ماند درين عالم نه عيب
فعلى العاقل الرجوع إلى الله والعمل بما في القرآن والاعتبار بأمثاله حتى يكون من الذين يعلمون حقيقة الحال.
وفي المثنوي :
هست قرآن حالهاى أنبيا
ماهيان بحر باك كبريا
ور بخوانى ونه قرآن بذير
أنبيا وأوليا را ديده كير
وربذيرايى جوبر خوانى قصص
مرغ جانت تنك آيد در قفص
مرغ كواندر قفص زندانيست
مى نجويد رستن ازناد انيست
روحهايى كز قثصها رسته اند
انبياى رهبر شايسته اند
كان الحسن والحسين رضي الله عنهما يلعبان بين يدي النبي، فأعجب بهما، فأتاه جبرائيل عليه السلام بقارورة وكاغدة.
وفي القارورة الدم وفي الكاغدة السم، فقال : أتحبهما يا محمد، فاعلم أن أحدهما يقتل بالسيف فهذا دمه والآخر يسقى السم، وهذا سمة، فقطع القلب عن الأولاد، وعلق قلبه بالله تعالى من قال الله، ولم يفر من غير الله إلى الله لم يقل الله دع روحك وقلبك، ثم قل الله كما قال الله تعالى لحبيبه عليه السلام :﴿قُلِ اللَّه ثُمَّ ذَرْهُمْ﴾ (الأنعام : ٩١) ؛ أي : ذرهم، ثم قل الله، فسأل الله سبحانه أن يجعلنا من المنقطعين إليه، والحاضرين لديه إنه هو المسؤول :
﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ﴾
١٠٤
تمهيد لما يعقبه من الاختصام يوم القيامة إذ كان كفار قريش يتربصون برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم موته.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٦٨
يعني :(كفار مكه ميكفتند جشم ميداريم كه محمد بميرد واز وبازر هيم).
والموت : صفة وجودية خلقت ضداً للحياة.
وفي "المفردات" : الموت زوال القوة الحساسية الحيوانية، وإبانة الروح عن الجسد.
والتأكيد بالنون لتنزيل المخاطب منزلة المتردد فيه تنبيهاً له على ظهور أدلته وحثاً على النظر فيها.
والمعنى : أنكم جميعاً بصدد الموت، فالموت يعمكم ولامعنى للتربص والشماتة، بل هو عين الجهالة :
مكن شادمانى بمرك كسى
كه دهرت نماند بس ازوى بسى
فمعنى قوله : ميت وميتون.
بالفارسية :(مرده خواهى شد وزود بميرند) ؛ أي : ستموت، وسيموتون.
والشيء إذا قرب من الشيء يسمى باسمه، فلا بد لكل من الموت قريباً وبعيداً، وكل آتتٍ فهو قريب.
روي أن آدم عليه السلام لما هبط إلى الأرض قيل له : لد للفناء، وابن للخراب.
قرأ بعضهم إنك مائت وأنهم مائتون ؛ لأنه مما سيحدث وتوضيحه أن المائت صفة حادثة في الحال، أو في المستقبل بدليل صحة قولك : زيد مائت الآن، أو غداً بخلاف الميت، فإنه صفة لازمة كالسيد للعريق في السؤدد والسائد لمن حدث له السؤدد.
وقيل : الموت ليس ما أسند إلى إبانة كالروح عن الجسد، بل هو إشارة إلى ما يعتري الإنسان في كل حال من الخلل والنقص وأن البشر ما دام في الدنيا يموت جزءاً فجزءاً، وقد عبر قوم عن هذا المعنى، وفصلوا بين الميت والمائت، فقالوا : المائت هو المتخلل.
قال القاضي علي ابن عبد العزيز ليس في لغتنا مائت على حسب ما قالوه، وإنما يقال : موت مائت كقولنا : شعر شاعر وسيل سائل.


الصفحة التالية
Icon