﴿وَالسَّمَآءَ رَفَعَهَا﴾ انتصابه بمحذوف يفسره المذكور أي خلقها مرفوعة محلاً كما هو محسوس مشاهد وكذا رتبة حيث جعلها منشأ أحكامه وقضاياه وتنزل أوامره ومحل ملائكته وقال بعضهم : رفعها من السفل إلى العلو سقفاً لمصالح العباد وجعل ما بينهما مسيرة خمسمائة عام وذلك لأن السماء دخان فاربه موج الماء الذي كان في الأرض ﴿وَوَضَعَ الْمِيزَانَ﴾ أي شرع العدل وأمر به بأن وفر كل مستحق لما استحقه ووفى كل ذي حق حقه حتى انتظم به أمر العالم واستقام كما قال عليه السلام بالعدل قامت السموات والأرض قيل فعلى هذا الميزان هو القرآن وقيل هو ما يعرف به مقادير الأشياء من ميزان وميكال ونحوهما فالمعنى خلق كل ما توزن به الأشياء ويعرف مقاديرها موضوعاً مخفوضاً على الأرض حيث علق به أحكام عباده وقضاياهم وما تعبدهم به من التسوية والتعديل في أخذهم وإعطائهم قال سعدي المفتي وأنت خبير بأن قوله أن لا تطغوا في الميزان وأقيموا الوزن أشد ملاءمة لهذا المعنى ولهذا اقتصر عليه الزمخشري.
قال الكاشفي : ووضع الميزان وبيا فريد يا منزل كردانيد ترازورا يا الهام داد خلق را بكيفيت ايجادان.
ليتوصل به إلا الإنصاف والانتصاف وكان ذلك في زمان نوح عليه السلام إذ لم يكن قبله كيل ووزن وذراع قال قتادة في هذه الآية : اعدل يا ابن آدم كما تحب أن يعدل عليك وأوف كما تحب أن يوفى لك فإن العدل صلاح الناس ﴿أَلا تَطْغَوْا فِى الْمِيزَانِ﴾ أن ناصبة ولا نافية ولام العلة مقدرة متعلقة بوضع الميزان أي وضعه لئلا تطغوا فيه ولا تعتدوا ولا تتجاوزوا الإنصاف وبالفارسية ازحد نكذريد در ترازو بوقت داد وستد يعني از عدل تجاوز نكنيد وبراستى معامله نمايد.
قال ابن الشيخ الطغيان مجاوزة الحد فمن قال الميزان العدل قال طغيانه الجور ومن قال إنه الميزان الذي هو آلة التسوية قال طغيانه البخس أي
٢٩٠
النقص.
كتاب روح البيان ج٩ متن
الهام رقم ٣١ من صفحة ٢٩١ حتى صفحة ٣٠٠
﴿وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ﴾ قوموا وزنكم بالعدل أي اجعلوه مستقيماً به وفي المفردات الوزن معرفة قدر الشيء والمعارف في الوزن عند العامة ما يقدر بالقسطاس والقبان وقوله وأقيموا الوزن بالقسط إشارة إلى مراعاة المعدل في جميع ما يتحراه الإنسان من الأفعال والأقوال ﴿وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ﴾ يقال : خسرت الشيء بالفتح واحسرته نقصته وبابه ضرب وأما خسر في البيع فبالكسر كما في المختار وقال في القاموس : خسر كفرح وضرب ضل والخسر والإخسار النقص أي لا تنقصوه لأن من حقه أن يسوي لأنه المقصود من وضعه قال سعدي المفتي : المراد لا تنقصوا الموزون في الميزان لا الميزان نفسه أمر أولاً بالتسوية ثم نهى عن الطغيان الذي هو اعتداء وزيادة ثم عن الخسران الذي هو تطفيف ونقصان وكرر لفظ الميزان تشديداً للتوصية به وتأكيداً للأمر باستعماله والحث عليه.
قال الكاشفي : أين همه تأكيد اهل ترازو راجهت آنست كه بوقت وضع ميزان قيامت شرمنده نشوند :
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٢٨٨
هرجو وهرحبه كه بازوى تو
كم كند از كيد ترازوى تو
هست يكايك همه برجاى خويش
روز جزا جمله بيارند يش
باتو نمايند نهانيت را
كم دهى وبيش ستانيت را
ـ روي ـ عن مالك بن دينار رحمه الله أنه دخل على جار له احتضر فقال : يا مالك جبلان من نار بين يدي أكلف الصعود عليهما قال : فسألت أهله فقالوا : كان له مكياً لأن يكيل بأحدهما ويكتال بالآخر فدعوت بهما فضربت أحدهما بالآخر حتى كسرتهما ثم سألت الرجل فقال : ما يزداد الأمر علي إلا عظماً وفي المفردات قوله : ولا تخسروا الميزان يجوز أن يكون إشارة إلى تحري العدالة في الوزن وترك الحيف فيما يتعاطاه في الوزن ويجوز أن يكون ذلك إشارة إلى تعاطي ما لا يكون ميزانه به يوم القيامة خاسراً فيكون ممن قال فيه فمن خفت موازينه وكلا المعنيين يتلازمان وكل خسران ذكره الله في القرآن فهو على هذا المعنى الأخير دون الخسران المتعلق بالقنيات الدنيوية والتجارات البشرية.
يقول الفقير وجه توسيط الميزان بين رفع السماء ووضع الأرض هو الإشارة إلى أنه بالعدل قامت السموات والأرض كما ورد في الحديث وإلى أنه لا بد من ميزان العقل بين الروح والجسد حتى يعتدلا ولا يتجاوز أحدهما الآخر والاعتدال الحقيقي هو الوقوف بين طرفي الإفراط والتفريط المذمومين عقلاً وشرعاً وعرفاً والموزونات هي الأمور العلمية والعملية المعدلة بالعقل المبني على الاستعداد الذاتي ﴿وَالارْضَ وَضَعَهَا﴾ أي خفضها مدحوة على الماء أي مبسوطة ﴿لِلانَامِ﴾ أي لمنافع الأنام وهو جمع لا واحد له من لفظه بمعنى الخلق والجن والإنس مما على الأرض كما في القاموس فهي كالمهاد والفراش لهم يتقلبون عليها ويتصرفون فوقها وقال ابن عباس رضي الله عنهما رب الناس ويدل عليه وقوله :
مبارك الوجه يستقى الغمام به
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٢٨٨
ما في الأنام له عدل ولا مثل
٢٩١


الصفحة التالية
Icon