اعلم أن الأولى لك أن تسكت عن بحثين وتكل العلم فيهما إلى الله العليم الخبير أحدهما ما يكون بين العلماء من أن صفات الله الثابتة هل هي موجودات بوجودات مستقلة غير وجوده تعالى أولاً بعد الإيمان باتصافه تعالى بهاوكمالها ودوامها والثاني ما يكون بين المشايخ من أن الوجود هل هو واحد والله سبحانه وتعالى هو ذلك الوجود وسائر الموجودات مظاهر له لا وجود لها بالاستقلال أوله تعالى وجود زائد على ذاته واجب لها مقتضية هي إياه ولغيره تعالى من الموجودات وجودات أخر غير الوجود الواجب على ما هو البحث الطويل بينهم وإلى ذلك يرشدك ما قالوا من أن ما اتصف الله به فهو واجب لا يتغير أصلاً وما لم يتصف به فهو ممتنع لا يكون قطعاً فإذا اختلف اثنان في ذاته وصفاته تعالى فلا جرم أن واحداً منهما أما ينفي الواجب أو يثبت الممتنع وكلاهما مشكل وأن ما أبهم علمه فالأدب فيه السكوت بعد الإيمان بما ظهر من القرآن والحديث واتفاق الصحابة رضي الله عنهم فإن المرء لا يسأل إلا عن علم لزمه في إقامة الطاعة وإدامة العبادة لمولاه قال صاحب الشرعة ولا يناظر أحد في ذاته الله وصفاته المتعالى عن القياس والأشباه والأوهام ولخطرات وفي الحديث أن هلاك هذه الأمة إذا نطقوا في ربهم وإن ذلك من أشراط الساعة فقد كان عليه السلام يخر ساجداًتعالى متى ما سمع ما يتعالى عنه رب العزة ولا يجيب السائل عن الله إلا بمثل ما جاء به القرآن في آخر سورة الحشر من ذكر أفعاله وصفاته ولا يدقق الكلام فيه تدقيقاً فإن ذلك من الشيطان وضرر ذلك وفساده أكثر من نفعه قال بعض الكبار ما في الفرق الإسلامية أسوى حالاً من المتكلمين لأنهم ادعوا معرفة الله بالعقل على حسب ما أعطاهم نظرهم القاصر فإن الحق منزه عن أن يدرك أو يعلم بأوصاف خلقه عقلاً كان أو علماً روحاً كان أو سراً فإن الله ما جعل الحواس الظاهرة واباطنة طريقاً إلا إلى معرفة المحسوسات لا غير والعقل بلا شك منها فلا يدرك الحق بها لأنه تعالى ليس بمحسوس ولا بمعلوم معقول وقد تبين لك بهذا خطأ جميع من تكلم في الحق وصفاته بما لم يعلمه من الحق ولا من رسله عليه السلام وقال بعض العارفين سبب توقف العقول في قبول ما جاء في الكتاب والسنة من آيات الصفات وأخبارها حتى يؤول ضعفها وعدم ذوقها فلو ذاقوا كإذاقة الأنبياء وعملوا على ذلك بالإيمان كما عملت الطائفة لأعطاهم الكشف ما أجاله العقل من حيث فكره ولم يتوقفوا في نسبة تلك الأوصاف إلى الحق فالعم ذلك وعمل به تعرف أن علم القوم هو الفلك المحيط الحاوي على جميع العلوم.
٤٧٠
ـ حكي ـ أن الفاضل محمد الشهرستاني صاحب كتاب الملل والنحل كان من كبار المتكلمين وفحولهم وكان له بحث كثير في علم الكلام ربما لم يسبق إليه سواه حتى جمع في ذلك الكتاب تلك المباحث القطعية ثم انتهى أمره إلى العجز فيه والتحير في ذاته حتى رجع إلى مذهب العجائز فقال عليكم بدين العجائز فإنه من أسنى الجوائز وأنشد :
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٤١٥
لقد طفت في تلك المعاهد كلها
وسيرت طرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضعاً كف حائر
على طقن أو قارعاً سن نادم


الصفحة التالية
Icon