واعلم أن المواخاة أمر مسنون من لدن النبي عليه السلام فإنه آخى بين المهاجرين والأنصار يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا يَسْخَرْ} السخرية أن يحقر الإنسان أخاه ويستخفه ويسقطع عن درجته ويعده ممن لا يلتفت إليه أي لا يستهزىء ﴿قَوْمٍ﴾ أي منكم وهو اسم جمع لرجل ﴿مِن قَوْمٍ﴾ آخرين أيضاً منكم والتنكير إما للتعميم أو للتبعيض والقصد إلى نهي بعضهم عن سخرية بعض لما أنها مما يجري بين بعض وبعض فإن قلت : المنهى عنه هو أن يسخر جماعة من جماعة فيلزم أن لا يحرم سخرية واحد من واحد قلت : اختيار الجمع ليس للاحتراز عن سخرية الواحد من الواحد بل هو لبيان الواقع لأن السخرية وإٌّ كانت بين اثنين إلا أن الغالب أن تقع بمحضر جماعة يرضون بها ويضحكون بسببها بدل ما وجب عليهم من النهي شركاء الساخر في تحمل الوزر ويكونون والإنكار ويكونون بمنزلة الساخرين حكماً فنهوا عن ذلك يعني أنه من نسبة فعل البعض إلى الجميع لرضاهم به في الأغلب أو لوجوده فيما بينهم والقوم مختص بالرجاء لأنهم قوامون على النساء ولهذا عبر عن الإناث بما هو مشتق من النسوة تفتح النون وهو ترك العمل ويؤيده قول زهير :
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٦١
وما أدري ولست أخال أدري
أقوم آل حصن أم نساء
﴿عَسَى﴾ شايد ﴿أَن يَكُونُوا﴾ باشند ﴿خَيْرًا مِّنْهُمْ﴾ تعليل للنهي أي عسى أن يكون المسخور منهم خيراً عند الله من الساخرين ولا خبر لعسى لإغناء الاسم عنه ﴿وَلا نِسَآءٌ﴾ أي ولا تسخر نساء من المؤمنات وهو اسم جمع لامرأة ﴿مِّن نِّسَآءٍ﴾ منهن وإنما لم يقل امرأة من رجل ولا بالعكس للإشعار بأن مجالسة الرجل المرأة مستقبح شرعاً حتى منعوها عن حضور الجماعة ومجلس الذكر لأن الإنسان إنما يسخر ممن يلابسه غالباً ﴿عَسَى أَن يَكُنَّ﴾ أي المسخور منهن ﴿خَيْرًا مِّنْهُنَّ﴾ أي من الساخرات فإن مناط الخميرية في الفريقين ليس ما يظهر للناس من الصور والأشكال ولا الأوضاع والأطوار التي عليها يدور أمر السخرية غالباً بل إنما هو الأمور الكامنة في القلوب فلا يجترىء أحد على استحقار أحد فعله أجمع منه لما نيط به من الخيرية عند الله فيظلم نفسه بتحقير من وقره الله واستهانة من عظمه الله.
وفي التأويلات النجمية : يشير إلى أنه لا عبرة بظاهر الخلق فلا تنظر إلى أحد بنظر الازراء والاستهانة والاستخفاف والاستحقار لأن في استحقار أخيك عجب نفسك مودع كما نظر إبليس بنظر الحقارة إلى آدم عليه السلام فأعجبه نفسه فقال : أناخ ير منه خلقتني من نار وخلقته من طين فلعن إلى الأبد لهذا المعنى فمن حقر أخاه المسلم وظن أنه خير منه يكون إبليس وقته وأخوه آدم وقته ولهذا قال تعالى : عسرى أن يكونوا خيراً منهم فبالقوم يشير إلى أهل المحبة وأرباب السلوك فإنهم مخصوصون بهذا الاسم كما قال تعالى : فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه يعني لا ينظر المنتهى من أرباب الطلب بنظر الحقارة إلى المبتدىء والمتوسط عسى
٧٩
أن يكونوا خيراً منهم فإن الأمور بخواتيمها ولهذا قال أوليائي تحت قبابي لا يعرفهم غيري وقال عليه السلام : رب أشعت أغبر ذي طمرين لا يوبه به لو أقسم على الله لا يره قال معروف الكرخي يوماً لتلميذه السري السقطي قدس الله سرهما : إذا كانت لك إلى الله حاجة فأقسم عليه بي ومن هنا أخذوا قولهم على ظهر المكاتيب بحرمة معروفالكرهي والله أعلم.
يقول البغداديون : قبر معروف ترياق مجرب وبالنساء يشير إلى عوام المسلمين لأنه تعالى عبر عن الخواص بالرجال في قوله : رجال لا تلهيهم تجارة وقوله رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه يعني لا ينبغي لمسلم ما أن ينظر إلى مسلم ما بنظر الحقارة عسى أن يكن خيراً منهن إلى هذا المعنى يشير.
ثم نقول إن للملائكة شركة مع إبليس في قولهم لآدم : أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك كان في نظرهم إليه بالحقارة إعجاب أنفسهم مودعاً ولكن الملائكة لم يصروا على ذلك الأعجاب وتابوا إلى الله ورجعوا مما قالوا فعالجهم الله تعالى بإسجادهم لآدم لأن في السجود غاية الهوان والذلة للساجد وغاية العظمة والعزة للمسجود فلما كان في تحقير آدم هو أنه وذلته وعزة الملائكة وعظمتهم أمرهم بالسجود لأن علاج العلل بأضدادها فزال عنهم علة العجب وقد أصر إبليس على قوله وفعله ولم يتب فأهلكه الله بالطرد واللعن فكذلك حال من ينظر إلى أخيه المسلم بنظر الحقارة.
قال الحافظ :
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٦١
من بشم حقارت نكاه بر من مست
كه نيست معصيت وزهدبى مشيت او


الصفحة التالية
Icon